- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الثلاثاء, 04 آب/أغسطس 2015 20:11

عندما بدأ القرآن يُقرأ في "مكة"، احتارت الآراء فيما اذا كان ما يقرأ شعراً أم نثراً، حتى توصل أهل مكة من الذين تساءلوا عن ذلك الى رأي مفاده ان ما يقرأ لا هو شعر، ولا هو نثر، فذهب الوليد بن المغيرة الى القول:"والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته؟ جزاكم الله خيراً.
وهكذا يعود الشاعر - أي شاعر - في القرن العشرين الى ذلك الزمن الماضي وما سبقة، ويجدد في الرأي الذي طرح، وهو يمزج بين حلاوة القول وطلاوته، وما يثمر من اراء،وافكار،ورؤى، فكانت قصيدة النثر التي جمعت بين شعرية الشعر، وشعرية النثر، حتى ذهبت اول باحثة متميزة لقصيدة النثر الفرنسية سوزان برنار إلى القول أنَّ قصيدة النثر هي: "قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور... خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائي".
وفي هذا القول ما يقرب قصيدة النثر الى عالم الشعر، كالإيجاز، والوحدة، والانضغاط، والايحاء، وكل هذه الميزات موجودة في الشعر الموزون، والمقفى.
واذا كان الشعر منذ ان قيل فيه أول بيت شعري بقالب عمودي معروف للقاصي والداني، وكذلك النثر الفني منذ ان قيل أو دون، أي منذ أن وضعت الخطبة الأولى فيه، فقد جاء القرآن ليأخذ احسن وافضل الصفات الرابطة بين الشعر والنثر ليكون كما عهدناه، وكما سمعه الوليد بن المغيرة وقال قولته المشهورة تلك.
وقصيدة النثر تحمل في ذاتها نظامي الهدم والبناء، تهدم كل شيء في القصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة، وتبني على اثرهما ذاتها المغايرة للنثر، انها قصيدة مكتوبة وليست شفاهية مسموعة، قصيدة تحيل الى "قانون الشعر " دون الإحالة الى "قانون النثر العادي".
قصيدة النثر كما الشعر،شأنها شأن اللغة، تستغل الطاقة الإبلاغية للغة كاشكال صوري أو سماعي، ومن هذا الجانب جاءت قصيدة النثر بالصيغة المشهدية البصرية، لتملأ مجالها الفضائي كشكل مغاير للقصيدة العمودية، ولقصيدة التفعيلة، ولتعيدنا الى النثر الفنيفي مصادره الأولى، ولشكل الشعر/ النثر في القرآن، لأن هذا الشكل يبعدنا عن القصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة.
في هذه الدراسة سنقدم قراءة لمجموعة الشاعر زعيم نصّار الجديدة "الحياة في غلطتها" حيث استل عبارة من احدى قصائده ليضعها عنوانا للمجموعة "في جادَّةِ الحياةِ التي تجتذبهُ. رأسُ الملاكِ يتبعثَرُ، حتى أن الرفيفَ يبقّـعُ الجدرانَ. الحياةُ في غلطتها"، من قصيدة "جثثٌ وراء البيوت".
تمتاز قصائد المجموعة بمميزات تعيد للمتلقي بعض رونق قصيدة النثر، وحيويتها، حيث يبدأ الشاعر بما ينتهي اليه الآخرون، يبدأ بالنسخة الثالثة، لينتهي بالنسخة الأولى، وفي هذا نوع من الفذلكة التاريخية التي تقرأ ما انتهى اليه الواقع في البداية لتنتهي الى أوليات التاريخ منذ البدء في النهاية، مقدما تاريخا لحياته "وقال: ها هي حياتي في غلطتِها، عثرةٌ للتيه، عثرةٌ للموجة الشاملة" وكل جزء من هذا التاريخ الوقائعي يتكون من ثلاث محطات، هي:
نسخة ثالثة: حياة على جانب النهر، بيت فوق طيران الصقور، حرب واحدة.
نسخة ثانية: صورة واحدة لنصف حياة، بيت في بحيرة سيروان، حيرة قارئ الحرب.
نسخة أولى: جثثث وراء البيوت، سواد الحرب تنبغي قراءة ابن آوى، حياة على جبل أجرد.
ان ما تمتاز به قصائد المجموعة، على الرغم من انها قصائد افكار ورؤى،هو:
تركيب الجملة الشعرية المميز:
ان لغة الشعر تختلف عنها لغة النثر العادي، ومن هذا خرجت الجملة النثرية / الشعرية من الاطار العادي الى اطارها الشعري، لتكون عند ذلك تركيباً خاصاً بالشعر الذي لا ينسى اصله النثري الفني، والامثلة كثيرة في قصائد المجموعة، منها:
* البرقُ الذي مرّ بقلبي كان عمري.
* في قوس طيرانه الصقرتذكـّر الثور المجنح والجمل الضائع وقراءة الأثر.
الصورة الشعرية المتحركة، والنابضة بالحياة:
ففي قصيدة "حياةٌ على جانب النهر" يقدم صور شعرية متتالية ومتحركة، ونابضة بالحياة:" على الأرجحِ السنوات التي مرّتْ في الطريقِ المعلّقة فوق الهاوية، كانت محشوّة بالأخطاء، لقد زهوتُ بها، ربـّما لأنها اخترعتني شاهداً على حروبٍ لن تنتهي، على رحلةٍ لعابرين ذهبوا الى مدينةٍ ضائعة، على معارك دينية يمقتــُها الله، على ثورات آمنت بالخرافة، على حكايةٍ يختلطُ فيها الواقع والخيال، العقل والجنون، الصورة والحدث.".
* فالسنوات على الطريق...،
* معلقة فوق الهاوية...،
* محشوة بالأخطاء...،
* الشاعر مزهو بها...،
لماذا ؟. لأنها:
+ ربما اخترعته شاهدا عن الحروب،
+ أو عن رحلة لعابرين،
+ أو عن معارك دينية،
+ أو ثورات،
+ أو عن حكاية يختلط فيها الواقع بالخيال.
هكذا يبني نصّار صور قصائده بصورة مركبة، الاولى تفضي الى التي تليها، وكانه جاء ليفسر بالتالية الاولى، فتبنى بجمالية تصويرية تفتقد أغلب قصائد بعض الشعراء لهذه الميزة.
- قصائد المجموعة تحمل رؤاها بين طيات الفاظها المكونة لصورها الشعرية،وفي تراكم الصور الشعرية، وفي الوقت نفسه تمتاح من هذه الرؤى/ الصور الشعرية المتحركة النابضة بالحياة، فتأتي محملة بكل افكار ورؤى وتصورات الشخصية الشعرية عن الانسان والكون والاشياء، عن الجحيم الذاتي الذي رآه الشاعر:
التجريد اللغوي الذي كتبت فيه قصائد المجموعة:
المقطع الشعري الذي اخترناه قبل قليل خير مثال على تجريد اللغة، فلا زوائد، بل جاءت لغة معبرة عما تقدمه من صور تحمل أفكارا ورؤى نابضة بالحياة والديمومة، انه يقدم قصائده باقتصاد لغوي، دون ترهل، او اسفاف في اداة التعبير، وفي ناتج هذا التعبير من افكار ورؤى.
- تستنطق قصائد المجموعة ما لم يعرف، أي تستنطق المخفي، و المسكوت عنه في حياة شخصية القصيدة، التي عاشت وتعيش جحيم الواقع الذي مرت به:
يقول في قصيدة "بيت فوق طيران الصقور":" فاضَ دمٌ فاختنق الهواء. جثثٌ طافية. ماذا يفعلُ لي الكتاب؟ رميتهُ على الجرف. مضيتُ تاركاً أمي وأبي وأخاً وحيداً لم تتبقّ حمّالة لنقله. نسيتُ موتاي. مضيتُ ناسياً بابي مفتوحاً لقليل من الحياة. اشتعلتْ رؤوس الأطفال. الورد ُيفرّ من يد القاطف. رؤوسٌ في ساحة النار. الطيرُ ينزف. وأنا أقول: حياتُنا زَلَّةُ لِسانٍ، والسماء ُغلطة الأرض لا أكثر ولا أقل."
فالصور الشعرية المتتابعة، واللغة المجردة من كل زائدة تخرجها من كونها لغة شعر لتدخلها في عالم النثر العادي،وما تحمله هذه اللغة من طاقة في التعبير،تقدم لنا القصيدة كباقي قصائد المجموعة،ما خفي، وما سكت عنه من عالم الشخص الذي يقدم اعترافه الذاتي.
- الايقاع الداخلي الذي بني على التكرار المعنوي،واللفظي الذي يصوغ صور القصيدة الشعرية البصرية صياغة تمنح القصيدة ايقاعا داخليا لا يقع عليه المتلقي مباشرة الا بعد اتمام قراءة القصيدة الواحدة في النسخ الثلاث، وكذلك تكرار الالفاظ وتتابعها، وتكامل الصور الشعرية الواحدة بالأخرى:
* "هي كيسٌ من الحروف، بلادي، بلادي بأحجارها، وأشجارها، وحيواناتها، وأنهارها، وعالمها، وترابها، وإنسانها، وحارسها، بلادي، بلادي حملتـُها على كتفي ومضيتُ".
- واذا كان شعر التفعيلة يتبع نظام التقطيع،حيث يترك الشاعر سطراً، او يضع نقاطاً، فان قصيدة النثر لا تتبع هذا" عند نصّار على سبيل المثال "،لان البياض الذي من خلاله يكون التنفس الايقاعي قد تم، ستؤجله الى ما بعد الانتهاء من قراءتها " انظر كل قصائد المجموعة ":
* في قصيدة "بيت فوق طيران الصقور" يكرر العبارة التالية بعد مقطع واخر "و....غلطة ال....لا أكثر ولا أقل"بتغير يقع على الالفاظ في المناطق المنقطة.
* وتكرار عبارة " اتممتها.... "في قصيدة" حرب واحدة " حتى يصل السابعة.
* ويضع كذلك في مواضع كثيرة ما يشبه العنوان لقصيدته، أو مقطع من قصيدته، ليهديه هذا العنوان، أو العبارة الى قول أمور لا يستطيع قولها من دون أن يحركه ذاك العنوان،" انظر الجزء الثاني من الكتاب - نسخة ثانية ".
* ويضع عبارة "ماذا سأقول" في قصيدة "سواد الحرب- تنبغي قراءة ابن آوى"، في "نسخة أولى".
- ان البنى السردية في قصائد هذه المجموعة تقدم افكارا ورؤى، وتجمع ميزات كل ما ورثناه من سرد عبر التاريخ السردي العربي " انظر كتابنا الف ليلة وليلة وسحر السردية العربية "، انه سرد لا روائي بقدر ما يكون جمالياً بحتاً، يذكرنا بكتابات ابن عربي الصوفي الا انه يختلف عنه في اللغة والأفكار والرؤى:
ان مجموعة "الحياة في غلطتها" وهي تشكل قصيدة نثرية واحدة على امتداد سبعين صفحة من القطع الكبير، بدأ بكتابتها عام 1986، وانتهى منها عام 1991 ، يبني فيها الشاعر زعيم نصّار اسطورته على انقاض اسطورة ادم وحواء، وسقوطهما، حيث عوقبا بخروجهما من الجنة، والتي ضمت بين كلماتها وصورها الشعرية، ورؤاها الفكرية،اساطير وحكايات كثيرة، كأسطورة الغراب المعلم الاول للبشرية عن دفن الانسان، واسطورة العنقاء،واسطورة اهل الكهف، واسطورة ابراهيم والكبش الذبيح، واسطورة اوديب، واسطورة الثور المجنح، وحكاية الجمل الضائع، وحكاية لعابة الصبر، وهكذا يدون نصّار أخطاء السنوات التي عاشها، السنين التي اسقطته في حبائلها، فراح يعدد أخطاءه منذ آخر خطأ حتى أول الأخطاء.