- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الأربعاء, 05 آب/أغسطس 2015 06:09

رواية "الشيخ والوسام" للكاتب فرديناند أويونو، من الكاميرون، توحي من عنوانها انها تنحو نحو رواية همنغواي "الشيخ والبحر"، لكن الشيخ في رواية ايونو مختلف. انه ليس قوياً ومتحدياً وصابراً كما في رواية همنغواي بل هو شيخ بسيط وساذج ومهزوم، رجل يخوض معركة يعتقد انها ناجحة لكنه يكتشف انه يصطدم بعالم غريب. فرديناند أويونو مؤلف الرواية لم يدخل الحدث بالطريقة التقليدية السائدة في كتابة الرواية انما خط لنفسه منهجاً جعله ساحة يلعب فيها ضمن سياقات وافكار وصور عدها تجربة واسعة وصحيحة. كون الالتزام والتعبير عن المعاناة بصدق وشفافية يفرض على الكاتب قضايا اهمها التوضيح والالتصاق بالوجدان. وهذا بدوره يفرض صدقاً مع نفسه وأدواته الفنية ويؤكد أن المتابعة الميدانية والوجدانية للشخصيات وبذل الجهود لرسمها بالشكل الملائم للحدث.. يجعل الشخصيات اكثر حركة وانفعالا تندفع مملوءة بالحيوية والاسترسال مع وجود الرقابة الفكرية والفنية التي تزود الحدث بعالم خيالي غني ومركز، عالم يتم التعبير عنه بأساليب فنية ولغة مرنة وكفوءة فيها التناغم والوضوح ما يعني الشخصية والحدث. فـ "ميكا" الشخصية المركزية في الرواية شخصية فقيرة وبسيطة وساذجة تعيش في قرية من قرى الكاميرون. قرية بعيدة عن المدينة التي يحتلها الحاكم العسكري والبيض والمستعمرون. يعيش مع زوجته "كيلارا" بعد فقده لولديه في حرب استعمارية. مجتمع تلك القرية مجتمع ريفي فيه العادات والتقاليد والممارسات المختلفة. هذا المجتمع المتخلف يخضع للتمييز العنصري. يتحكم في قدراته وموارده الرجل الأبيض. هذه العادات المختلفة تحمل في داخلها أسلوب تعبير مختلف. أسلوب يلجأ اليه الشعب لتوضيح حزنه وفرحه وغضبه. فكان ذلك الوضوح في السرد والمشاهد أو المواقف منسجماً مع أسلوب تعبير الناس. ميكا الطيب وهب اراضيه للكنيسة والرجل الابيض وعاش في كوخ بائس من اطراف القرية معتقداً أن ما فعله قد يقربه من الرب والكنيسة ويعطي لنفسه الحق بلقب المسيحي النموذجي الذي لم يعارض ارادة الرب. أن حراك الرواية وتصاعدها وتشابك المشاهد وانفعالها غرست في نفس ميكا وعياً جديداً تفتحت به عوالم الطريق الجديد الذي يجب أن يسلكه بالتعامل مع هؤلاء الذين سرقوا حياته وأراضيه. لم يكن ميكا ثقل الرواية وحده انما هناك شخصيات عديدة ثانوية رفدت الفعل والحركة فكانت وعلى مدار الحدث الواناً طرزت واضافت نظماً فنياً مد الرواية بالتألق والحوار وهذه خاصية جميلة انتهجها الكاتب في رسم صورة واضحة لعناصر الأحداث وتوزيع الأدوار.
هذه الشخصية المركزية وحتى الثانوية كانت محاصرة وغير مفروضة لأن لها أدواراً أضافت حراكاًً أفاد الكاتب بالعبور للفنية التي رسمت الصدق والرؤية. فميكا يعاني كغيره قساوة العيش تلك القساوة كانت حصاراً زمنيا ًسد منافذ حياته اليومية حينما شعر أن الواقع المعيش كان حاضراً من دون مستقبل لأن المستقبل لا يقبل أن يعيش وسط أجواء محاصرة وبذلك أشعرتنا هذه الشخصية ان الزمن المحاصر زمن محطم لأن أبطاله لا يسعون للخلاص. اذاً هم لا ينظرون إلى الأمام نظرة صحيحة خالية من القلق بل يعيشون القلق يومياً مما أثر ذلك على تصرفاتهم وسلوكياتهم التي دفعت ميكا بعد ذلك للتمرد وهذا لا يعني انكساراً لخبث مشاعره بل دافع قسراً لذلك. لأن الظرف الذي عاشه وسط القسوة دافع جعله يتناحر ويقاتل فضلاً عن تأثير الواقع البيئي الذي شكل شخصيته الجديدة. فعندما استدعي ميكا من قبل الحاكم العسكري لتقليده الوسام تثميناً لوقوفه وتبرعه بأراضيه للكنيسة. كان هذا الخبر قد هز القرية قبل ان يهزه. فأستعد لذلك اليوم اكبر الاستعداد وقد اوصته زوجته كيلارا وهو يتهيأ للذهاب لتسلم الوسام. "يجب ان لا تظهر مشاعرك امام الرجل الأبيض. انت تعرف انهم على استعداد لتنفيس غضبهم في عجوز محترم مثلك". وحين حضر احتفال تقليده الوسام شعر انه محط أنظار البيض والسود. فرحته التي يعيشها وسط أهله والبيض لم تدم طويلاً. فما أن غادر الاحتفال عائداً لقريته حتى تصدت له شلة من الشرطة البيض فأشبعته ضرباً ورفساً بحجة انه دخل مكانا ًيمنع التواجد فيه. فضيع من قلبه الفرح وخسر معه الوسام وسط مياه الأمطار التي رافقت وجوده عند ذاك أيقنت أن التمييز العنصري ما يزال كما هو سائداً وقوياً وان ما اقدم عليه من تفريط بالأرض والأولاد تصرف خاطئ يجب أن لا يمر عليه مر الكرام. لقد فشلت أحلامه وآماله فظل يعيش تجربة تقوم على الألم والتذكر فأحس انه. هزم بأفكاره وتصرفاته. لقد افرز هذا الموقف الظالم في نفسه وعياً جديداً لم يألفه سابقاً جعله يبتعد أكثر من الأنانية والتملك. اذاً الزمان والمكان حافزان في الرواية. فالقرية التي يعيش فيها تعني المكان كذلك تعني المدينة التي يحتلها الحاكم العسكري والبيض المكان أيضاً. فالمكان هو من خلق الفرح والحزن والضحك والرقص وهذا في حد ذاته رسم لجمالية المكان. لأن المكان عادة يكون جميلاً عندما يكون مرتبطاً بجمالية النفس. هذه الجمالية تختلف باختلاف نظرة الانسان. فكان ذلك مدعاة الزمن لان للزمن احساساً كما للمكان احساس فجمالية الاثنين مرتبطة بحالة بطل الرواية حين يكون حزيناً أو سعيداً. فالمكان والزمان في الرواية لم يتغيرا انما الذي تغير هو احساس ميكا. لذلك بقيت الرواية تستمر في اتجاه متداخل ومتأرجح لا يحتاج إلى توقف زمني يستعيره الكاتب في تحريك شخصياته وأحداثه كون التوتر الزمني فيها محكم ولا يتكرر الا لضرورة فنية. ومع كل ما كان لميكا من خبرة وتردد يظل وعلى مدار الحدث مطوقاً بظرفه الخاص. هذه الرؤية وذلك الفهم اعتمده الكاتب لتوضيح أسلوبه، أسلوب تعبير التعب عن نفسه. اذاً ثقل الرواية وابعادها هما الخير والشر، لذلك غير مطلوب من الكاتب أن يعطي مسحاً اجتماعياً لموجوداته بل يستطيع من ذلك وخلاله ان ينتقي الزوايا النموذجية والدالة التي تعبر بشفافية عن آفاق تاريخية ذات مضمون أيدولوجي هادف. الحصيلة التي استقرت في ضمير ميكا هي ذلك الوعي الجديد الذي استند على ما افرزه الموقف الغريب من البيض والذي غير كثيراً من مفاهيمه ومعتقداته. لقد ايقنت وبأيمان ان الكارتل الاستعماري يبقى واحداً في نظرته لكل الشعوب. لأن هذه الشعوب بئر يستمد من ثروته. فالإحساس بالتاريخ يعني الاعتزاز بالنفس ورفض منطق الاستعباد بالتاريخ يعني الاعتزاز بالنفس ورفض منطق الاستعباد كون الوعي الانساني يتأتى من التفاعل مع الحياة ومكوناتها. فالابتزاز الاقتصادي والسياسي هو اعتداء على اخلاقية وثوابت تلك الشعوب التي حددتها قيمها الأخلاقية. فغمط قيم الانسان ونهبها هو هدم واستحواذ لكل القيم التي اعتزت بها الشعوب. لقد استخدم الكاتب لغة مرنة وكفوءة تحتمل تساؤلات عدة وأفكاراً شكلت جواً نفسياً فالانفعالية في اللغة والرقة حيناً آخر هي من حافظت على نسخ الرواية وتوزيعها للأحداث وفق منظور طيب فالرواية استلهمت الواقع الاجتماعي والاقتصادي في الكاميرون من مفهوم واع. كان عاملاً مضافاً لنجاح الرواية. فالواقعية الانتقادية لأوضاع المجتمع والصورة الصادقة ذات الخصائص الفنية هما جوهر سرد الرواية. الجميل في الرواية هذا الانتشار للأحداث وغزارة المادة. بحيث يشعرك الكاتب حيث يصف حدثاً انه يعيشه او كان معه لانه يدخل صميم الفكرة ناهيك عن جو الحدث البعيد عن المبالغات بالرغم من بعض المؤثرات التي تفرضها الفترة. وهذا ما جعل اجواء الرواية مزيجاً متجانساً بين الواقع والخيال بعيدة عن الثرثرة الفارغة. فكان الحوار حواراً ديناميكياً فيه المجال السايكولوجي يخضع لظرف واحد. لأن الحوار بهذه الطريقة يمنح الكاتب فرصة كبيرة في رصد اكبر لعالم الشخصيات والحدث. اذاً رواية الشيخ والوسام للكاتب الكميروني فردناند اويونو قدمت نصاً حكائياً قائماً على الثراء الفكري والمعرفي الذي جعل منه تجربة فنية بعيدة عن النمطية. فكانت الواقعية ببعدها الاجتماعي وكانت التخيلية الخالقة للجمال ضمن فضاء زمكاني متداخل عضوياً ومنسجماً بالوحدة لتوصيل المضمون والمعنى السردي وحركته التي تعبر عن الواقع الانساني. وهذه قدرة جيدة على التغلغل في عمق الذات الانسانية وابراز خفاياها باعتماد اسلوب يحاكي الواقع عبر حوارات ذات طبيعة فنية.