ادب وفن

قراءة في مجموعة صبري الحيدري القصصية : لا أحلام في مدن الحرب / صادق الطريحي

صبري الحيدري قاص متميزٌ ـ كما أزعم ـ ولكنه مقل في قصصه، أو في نشرها؛ لأن مجموعته الأولى "حلم مبكر.. حلم متأخر" صدرت متأخرة لعقود عن أول قصة نشرها.
احتوت المجموعة على إحدى عشرة قصة قصيرة، وعلى خمس "قصص قصيرة جدا". وفي النظرة الأولى للمجموعة يستطيع القارئ أن يتمثل أجواء الحروب، ومجموعة من الشخصيات المقهورة والمشوهة والمحرومة، هي من تملأ هذه الأجواء وتبث فيها الحياة، وأن الأحلام هي القاسم المشترك الذي يجمع هذه الشخصيات.
تبدأ المجموعة بقصة "مقامات الطيرواني" وهي تصور مجموعة من المعاقين وأصحاب العاهات المستديمة والعواقر يهربون من "المدينة الرمادية" في موكب بحثاً عن "طائر الفلاة" الذي سيشفيهم، مستعينين بكتاب "مقامات الطيرواني"، الذي ألفه المحب البغدادي الطيرواني وفيه مخطط للوصول إلى مقبرة الجيش، التي يعيش طائر الفلاة فيها، ويكتشف الراوي أن أحد الأشخاص بلا عاهة، ولكنه يجيبه "أنا ضمن سربكم وعاهتي أشد من عاهاتكم.. أنا أحلم بحياة أفضل مما وجدتها في المدينة الرمادية". استطاع القاص أن يوظف الموروث الميثولوجي في هذه القصة، فما أكثر الكتب التي تتحدث عن حياة أفضل في أماكن أخرى أو أزمان أخرى "حسناً.. خلف مقبرة الجيش مدينة بلا حروب اسمها مدينة السعادة أنا ذاهب اليها.. هناك لا كد أو لهاث لا هراوة أو ضيم لا مقابر أو سجون.. هناك خبز وحب وكل شيء متاح بقليل من الجهد". وترك القاص هذه القصة غفلاً من الإطار التاريخي والجغرافي، ما ولد فيها دلالة متسعة الأرجاء، ولا شك في أن الشعوب المقهورة بسبب الحروب هي من تبحث عن مدينة السعادة "اليوتوبيا". ولكن في القصة بعض التعليقات الزائدة التي يمكن حذفها بدون أن تتأثر القصة، وفيها أيضاً بعض الأوصاف المستهلكة، كهذا الوصف "جثم الليل بقوة"، ولا تخلو القصة من بعض التوصيفات الجديدة "ولم يكن الشاب السائر إلى جنبي سوى علبة دخان فارغة يطوحها الهواء". لكننا في قصة "منزل السيدة جميلة" سنعيش أجواء الحب ولذة الانتظار، واستطاع القاص أن يمنحنا انطباعاً بوحدة الأثر، وأن يقص حكاية جميلة بحدث واحد في مشهد متصل مستخدماً التقنية السينمائية "الفلاش باك" وبوصف وأسماء مناسبة للثيمة الرئيسة في القصة.
تأخذ القصة الأخرى "ليلة أرجوان" موضوعاً مكرراً ومستهلكاً في السرديات والمرئيات العربية التجارية، وهو موضوع زواج الرجل الغني الكبير في السن من فتاة صغيرة جميلة وفقيرة! ولو أن القاص استطاع أن يأخذ زاوية جديدة للنظر لربما جاء بقصة متميزة، لكنه اختار سرير الزوجية لتصوير القصة، واستخدم صيغة الراوي العليم، فسلب الشخصيات حقها في إبداء مشاعرها ووجهات نظرها، فما عاد الكاتب في القصة الحديثة يعرف كل شيء، ولا يستطيع أن يصف مشاعر كل شخص وآلامه، وعلى الكاتب أن يتيح الفرصة للشخصيات كي تتحدث عن نفسها وعن غيرها ـ ممن تعرف ـ وعن الحدث الذي تعيشه.
لكنه في قصة "تحت البرج" استطاع أن يلتقط في نهاية القصة زاوية جديدة للنظر، واستطاع أن يبرز التضاد بين البرج المرتفع إلى الأعلى وحالة أسرة تضطر إلى التسول بحيله المعروفة وقد مسها الحصار وضآلة الأجور، وقد استمر تسولها حتى بعد السقوط. وتذكرنا قصة "الطريق إلى الماء" بقصة ماركيز الشهيرة "الوقائع الغريبة والعجيبة لقصة أندريانا الطيبة وجدتها الشيطانة"، "ويوم تعتذر لعمتها بأنها متعبة وبودها أن تمكث نائمة، تعنفها العمة بصوتها الشبيه بصوت خوار الثور لتعلن صائحة: لن أمنحك صحن الطعام أو أي فلسٍ واحد". تصور القصة بصيغة الراوي العليم يوماً مكرراً في حياة المومس "هدية" وبرمها من حياتها، وتوقها إلى التخلص من الإثم، لكنها لا تجد في المساء غير ماء النهر ليخلصها من الحرام "بدأت بكفيها تغرف الماء على جسدها تدلك وتمسح برفق، صاعدة نازلة، الماء يتنزه فوق اللحم يطوف سابحاً مع كل حركة تصدر منها، حبات الماء تنقر وجهها، كل نقطة ماء تنحدر إلى فمها، تشعر بها كالرضاب لتنحدر إلى جوفها اللاهب شهداً وحلالاً طيباً لم تعرفه، منذ أن امتهنت مهنتها الكريهة، المهنة التي منحتها مشاطرة المزيد من وحوش كاسرة تراهم في الشارع والرصيف والغرف السرية الحمراء". ثم تنتهي القصة مساءً بأحدهم وهو يراقبها، فيأخذ محفظتها ويغتصبها على الجرف. ولكن القصة لا تعتمد الحدث الواحد، ففي القسم الأول منها تذهب المرأة مع أحدهم إلى بستانه لممارسة الجنس، ولكن الحدث لا يتطور، ولو حذف لما اختل بناء القصة، وقد أخبرنا الراوي العليم مراراً أن المرأة مومس.. ولعل الجديد في هذه القصة هو طقس التطهر في الماء، وهو طقس تعبدي عراقي. وفي قصة "ترنيمة جثة" لم يكن الحدث ملموساً، فقد استرسل الكاتب لتداعيات شاب يموت في أحد الانفجارات، من اللحظة الأولى حتى وصوله القبر، لتنتهي القصة وقد "عاد الدفان بجثة أخرى، لها ترنيمة أخرى، أود سماعها". ويمكن لهذه الانثيالات أن تمتد إلى ما لانهاية. ويحدث في القصة أن أحد الأطفال يمتطي التابوت في البيت، ولا أعتقد أن هذا الفعل ممكن الحدوث، لحرمة الميت عندنا.
أما أكثر القصص ثراء بالحوار فهي "بعد منتصف الليل" وفيها يجري حوار تلفوني جميل بين امرأة ورجل لا يعرفان بعضهما، يريدان أن يتخلصا من الوحدة في الوقت الذي يشتعل فيه جانبا الخط بالهاونات والقذائف! ولا شك في أنها قصة ناجحة بفضل طريقة الحوار التي يستطيع فيها الرجل والمرأة التعبير عن أحلامهما بحياة مستقرة وآمنة في ظل أوباش كلاب يتصارعون على السلطة، من خلال السلاح الثقيل في مدينة صغيرة، أما أسماء الشخصيات "حليم الجوال وهناء" فقد أضفت على القصة مزيداً من الحيوية. وتنماز قصة "بحثاً عن ورقة خاصة" بموضوعها المستل من الحرب، إذ سيدعى البطل بمجنون الورق قبل أن نكتشف أنه يبحث عن ورقة تسريحه من الجيش، التي سيحصل عليها في نهاية القصة مع فقدان رجله اليسرى. وتدان الحرب أيضاً في قصة "صباح الأوجاع" حيث يقوم الجندي بتعداد التوابيت لتمضية الوقت، لكننا نفاجأ في نهاية القصة بثلاجة للموتى مجهولي الهوية! ونلتقي في قصة "تل السرطان" بالجد الأعلى لأسرة تبحث عن الميراث بانتظار موت الجد، ولكنه يأبي أن يبوح بمكان الكنز، فيضطروا لحفر الحديقة بحثاً عنه، استطاع القاص هنا أن يوظف حادثة واقعية متكررة في إنتاج قصة رمزية عن العراق، فالجد "شهد حروباً وأمراضاً… قدم الكثير من الشهداء والمفقودين والمعاقين والأسرى والمجانين…". فمن غير العراق المعاصر يمثل هذا الجد؟ ولكن البطل الراوي ينسى نفسه قليلاً فيقول "كان جدي بلا إنسانية، مفرغاً من العاطفة والحنان". وهو حكم يجب أن يستنتجه القارئ، لا أن يبوح به الراوي.
وتتميز القصص القصيرة جداً بحرفيتها، ورشاقتها، وبقوة إيحائها، فقد خلت من الفضول، والجمل التفسيرية، وتعليقات الكاتب، كما في قصة "التابوت" وباستخدامها للمجاز، كما في قصة "حرمان" وقدمت هذه القصص تطبيقاً فنياً ممتازاً لنظريات القصة القصيرة جداً.
وأستطيع القول بثقة الآن، إن صبري الحيدري قاص متميز، استطاع أن يختار موضوعات ساخنة من البيئة المحلية المعاصرة، تدين الحرب بطريقة غير مباشرة، وألبس بعضها الميثولوجيا، واختار شخصيات مقهورة، رسمها بدقة وهي تحاول التخلص من واقعها بالحلم أو بالفعل، فلا تستطيع. ولكن فن القصة القصيرة هو فن الحذف، وإن القصة الناجحة هي القصة التي يعلم فيها القارئ كل شيء عن الشخصيات، ولكن هذه المعلومات غير مكتوبة في القصة!