ادب وفن

قراءة في قصيدة " 31 آذار أول الحكاية " */ عبد العزيز لازم

الإبداع الأدبي الملهَم بكل أجناسه هو ضمير الحركة الثورية التي تسعى الى التغيير الجذري في المجتمع تجسيدا لاحلام الناس في حياة اكثر نظافة وعدلا .عندما تمخضت ظروف العراق عن حاجة تاريخية لظهور حركة منظمة في آذار عام 1934 لقيادة حركة الاغلبية المظلومة والمستلبة نحو تحقيق احلامها ، انبثقت دوامة حركية عالية النشاط من باطن الواقع العراقي .
وهذا بالذات هو مركز الثقل الذي يدفع بها نحو بؤر حركية متصاعدة . لذلك كان لابد لتلك الدوامة ان تعبر عن جبروتها باكتشاف رنينها الخاص واساليب سردها المميزة لتعلن عن لونها الاسطوري الجديد . وهكذا كان ظهور الحزب الشيوعي العراقي عام 1934 ايذانا بان ثمة امل بدا يبزغ بقوة طاغية . وصار الحدث العظيم بؤرة الهام كبرى لناشطي الادب و الشعراء بخاصة .
القصائد المنشورة في العدد 154 من "طريق الشعب" تضيف اناشيد جديدة احتفاء بالذكرى التاسعة والسبعين لتأسيس حزب الشيوعيين . ونحن هنا نتناولها احتفاء بالذكرى الثمانين لتاسيس الحزب ضمن جهدنا في دراسة ما ينشر في الصفحة الثقافية . فقصيدة ريسان الخزعلي "31 آذار أول الحكاية " تطلق سردا يؤشر بؤرا تاريخية كانت شهودا على الميلاد ومسيرة المولود الأولى . يواجه الجهد اللفظي للقصيدة وظيفة الانتقاء عالي الحساسية لتحديد الهوية الصارمة للقادم الجديد بتقديم تعريف اولي لتحديد موعد ظهوره في 31 آذار لتتفرغ بعد ذلك لالقاء نقاط ضوء اخرى على بعض تفاصيل السيرة . عبارة الاستهلال " بين الرصاصة والوردة " تلخص تاريخاً بالغ الدلالة ، فالوردة (كنا نتمنى أن تأتي قبل الرصاصة كما ورد في وسط النص ) تماثل نوع الفكرة التي حملها الحزب الشيوعي فهي تعطي معنى السعادة أو الازدهار المشتقة من شعار الحزب ( وطن حر وشعب سعيد ) لان الشق الثاني من الشعار " السعادة " لايحقق كيانه المادي الا بوجود رموزه ومنها الجمال الذي يمثله الورد . لكن اعداء الورد السعادة الازدهار لم ولا ولن يستطيعوا تقبّل بؤرة الضوء التي تطلقها تلك الموضوعة . لذلك تنطلق "الرصاصة " التي تحاول اعاقته . وتتجه الرصاصة الى رؤوس منتجي الورد وهم الشيوعيون . فتكون هذه المفردة قد لخصت الجهد النضالي الصعب الذي نفذه المناضلون الشيوعيون من أجل تحقيق معاني الوردة . وتتكاثف التفاصيل في جسم النص الشعري لدفع المفردات الفخمة في سياحة مبحاثة للعثورعلى روابط تتصل بالوردة نفسها فيحضر الملح والرغيف والاخضرار والموسيقى والنهر والحمامات بالارتباط مع الدموع ونقرة السلمان لتشكل اللوحة التي صنعها الانبثاق الجديد . ان الملح والرغيف يعطيان اللون الطبقي لانطلاقة الحزب ، لأن هناك ( العيون التي راقبت أول النهار ../ تمنحك الدموع وسع الرغيف ) . إنها عيون المسحوقين الذين يُلجؤهم الإضطرار على العمل الشاق في ظروف صعبة " العمل في الممالح " خاصة ربات البيوت من أجل الرغيف . فهؤلاء الكادحون يحملون احلامهم في العيش الكريم التي تتطابق مع ما صاغه الحزب من اهداف، الى اماكن عملهم الصعبة . ولنلاحظ ان مفردة "الممالح" تعطي معنى مزدوجا ، فالوجه الثاني للمعنى هو روح الاشياء وعماد اللذة التي تمنحها ، لأن الأرض لا تعطي نبتها دون الملح اللازم للإنبات وكذا الامر مع الخبز وسائرالغذاء الذي يستقيم مع الملح . يرتبط ذلك بقوة أيضا باحلام السلام الذي تجسده الحمائم فوق اهداب الكادحين التي تتحول الى اغصان مهداة الى الحزب ، مقدم التضحيات من أجل ذلك . إن الصورة الشعرية التي تبثها الدموع والرغيف والعيون التي تمنح الهدب: (غصنا تؤرجحه .../ الحمامات ../ وقت../ الظهيرة .) الى البطل ترسم العلاقة الراسخة بين هؤلاء الكادحين والحزب الذي انبثق من بين اوساطهم . وهناك صورة غاية في الجمال بسبب قوة التجسيد الذي يدخل في عمق التفاصيل خاصة وانها تستحضر مدى تجذر العلاقة بين البطل " الحزب" وبين المتطلعين اليه اصحاب الشأن الاول : ( .. وتمنحك إحمرار بياضها ../ عند اسوداد الأفق .) إن احمرار بياض العيون هو بسبب انهمار الدموع التي تجرح البياض الرقيق .ويعلم التشكيليون ان اللون الابيض اذا اضيف الى اللون الأحمر ينتج عنهما اللون البرتقالي وهو ما عليه لون الشمس . واذن فأن عيون الفقراء تصير شموسا يقدمونها الى المسيرة التي يقودها الحزب لتضيىء الأفق حين يصير قاتما . إن تلك الصورة ذات الايحاء العالي تضيف تفصيلا جماليا ومضمونيا الى جسد العلاقة بين البطل وانصاره . وهذا ما تؤسسه وقائع المسيرة الكفاحية التي يقودها الحزب ولا زال يقودها . ان الخزين الغنائي للقصيدة يجسد نفسه في الاستهلال والقفل المشابه ، كما ان التدرج في صنع الصورة الشعرية بدءاً من " الممالح " ومرورا "بالعيون التي راقبتك " ثم راقبت أول النهار والاخضرار والموسيقى ونقرة السلمان وشغل الرغيف في موضعين ثم انتهاءً بالممالح تبث موسيقاها في تلك الانعطافات التي توفر انتقالات درامية ضمن تطورالحكاية . ورغم ان القصيدة تحصر ثيمتها في موضوعة " اول الحكاية " وتحاول ان تقفل عند "الممالح" مثل ما بدأت بها كما يجري في جنس السوناتا ، الا ان ذلك القفل يعطي رسالة مضمرة بان ثمة وعودا اخرى بل وعودا لا نهائية سينفذها الناس والبطل في مراحل لاحقة ، لأن " سراتنا " ستبقى متأججه ونشطة في بثها اللاحق.
ـــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في العدد 154 السنة 78 الخميس 28/ آذار 2013