ادب وفن

تشيرنشيفيسكي: " الحقيقة لا يتوصل إليها إلا من كان حراً "/ خديجة السعدي

في ستّينات القرن التاسع عشر بحث تشيرنشيفيسكي الكاتب الثوريّ وصاحب رواياتٍ أدبيّة واجتماعيّة وسياسيّة عن الحدود الفاصلة بين الحقيقة والخداع، وبين الشرّ والخير.
تزعّم الحركة الديمقراطية الثوريّة الروسيّة بعد أن قرأ مقالات بيلينسكي، ومؤلفات بوشكين، ليرمانتوف، جوكوفسكي، غوغول، شيلر، ديكنز، جورج ساند، وغيرهم. ودرس وناقش النظريات الاشتراكية لروبرت أوين وفورييه وبرودون ولويس بلان فتأثّر كثيراً بها وازداد إيمانه بالتقدّم.
قراءاته المبكّرة ساعدته في تكوين نظرته الصائبة تجاه الأدب والفن والمجتمع. توصّل بعد قراءاته الفلسفية إلى الماديّة، وأدركَ بوعيِّ تام وعميق، الارتباط الوثيق بين الفلسفة وحياة المجتمع. واستنتج بأنّ الجدل يقضي بأن ننظر إلى الحياة كتبدّل دائم للأشكال ورفض مستمر للشكل الذي تمليه ولادة مضمون جديد. ثم أضاف: "فمن فهم هذا القانون الكليّ الشامل الخالد العظيم، وتعلّم تطبيقه على كلّ ظاهرة، يكون قد أمّن حتماً فرص النجاح الرائع العظيم، ومن أدرك هذا لن يندم على شيء فات أوانه، وسيهتف قائلاً: سيحلّ العيد في شارعنا في نهاية المطاف!".
استفاد تشيرنشيفيسكي من فلسفة فورباخ التي ساعدته على تطوير نظرته الماديّة إذ استطاع أن يتجاوز فورباخ عندما دحض الجانب التأمّلي في فلسفته التي تكتفي بتفسير العالم.
هذا هو الاشتراكي الديموقراطي الذي عرف كيف يؤثّر بروح ثوريّة على مجمل الأحداث السياسية في عصره.
كتابه "ما العمل" أصبح بالنسبة للشبيبة الروسية في ذلك الزمن برنامجاً متكاملاً ومصدراً للإلهام الثوري. "ما العمل" روايةٌ اجتماعية وسياسية تمثّل الخطوة الأولى في تطوير الأدب الديمقراطي الثوري، ففيها يجعل من السياسة مادةً للإنتاج الأدبي. ومن الثورة الديمقراطية الشعبية والاشتراكية مجالاً للرائع والسامي.
ولأوّل مرة يصبح الثوريّون المتفانون أبطالاً رئيسيين في روايته التي عكست بصدق الأحداث الثورية العاصفة في روسيا إبّان فترة الستينات من القرن التاسع عشر. وعالجت المسائل الحيوية الملحّة لتلك المرحلة. كما حدّدت الطريق التي تساعد الشعب على التخلّص من وضعه المهين الصعب غير المحتمل.
وفي هذه الرواية أيضاً يصف الكاتب استعداد الشبيبة الديمقراطية للتضحية بكلّ شيء من أجل تحقيق الحرية والمساواة والعدل. ويعدّ تشيرنشيفيسكي بحقّ نصير المرأة إذ وصفها إبّان فترة نضاله بالصديقة والرفيقة ولهذا السبب أطلق الكثير من النقّاد على رواية "ما العمل" تسمية رواية المرأة نظراً للدور الإيجابي الذي تحتله فيها. وأهمّ أبطال الرواية فيرا بافلوفنا التي أدركت دورها في المجتمع فبدأت بتعليم الفتيات القراءة والكتابة وأوضحت لهنّ المبادئ الصحيحة في الإدارة والتنظيم. وإضافةً إلى فيرا هناك رحميتوف الذي استطاع أن ينفصل تماماً عن الطبقة الإقطاعية ويقطع كلّ الخيوط والصلات معها ويعيد تربية نفسه وصقلها وتنشئتها على أفضل التقاليد الثورية حتى أصبحت قضية الثورة مهمة الجميع.
ويصف الكاتب مجتمع العدالة الذي يناضل من أجله بأنه مجتمعٌ خالٍ من أشكال التناقضات الطبقية حيث تختفي الجرائم وأنواع الاضطهاد الملازمة لمجتمع الملكية الخاصّة ويصبح فيه العمل مسرّة ما بعدها مسرّة.
استطاع تشيرنشيفيسكي أن يُوصِل للقارئ، وبذكاءٍ كبير أنّ النساء الذكيّات بالفطرة أكثر من الرجال وأنّ تكوين المرأة أرقى من تكوين الرجل وأنّ المرأة ستزيح الرجل على صعيد الحياة الذهنية إلى المرتبة الثانية عندما يزول القسر والإكراه الفظّ. ويورد تفاصيل عديدة عن علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء منها أنّ بنية المرأة أكثر مقاومةً للتأثيرات الخارجية كالمناخ والطقس ونقص التغذية وأنّ عمر المرأة أطول من عمر الرجل. وهذا كلّه يبيّن أنّ بنية المرأة العضوية أكثر مقاومةً وسلامةً من الرجل. فضلاَ عن كون أعصاب المرأة أكثر مرونةً وأشدّ تماسكاً من أعصاب الرجل. والمرأة مليئةٌ بالحبّ، والحبّ يثير قوى الإنسان كلّها. وهنا يكون الحبّ حقيقياً. فالحبّ في النهاية يساعد على السموّ والارتقاء. وحينما يعترف الرجل بأنّ المرأة مساوية له يمتنع عن النظر إليها كملكية خاصة به. عندئذٍ يحبّها مثلما تحبّه فيشعر كلاهما بالحريّة.
الطبيعة منحتْ المرأة عقلاً سليماً وقويّاً وراجحاً ومدبِّراً، ولكن دونما فائدة بالنسبة للمجتمعات التي ترفضها وتقمعها وتغتالها. فلو تُرِكَ هذا العقل يعمل بحريّة بعيداً عن القمع والضغط والإكراه لكان تاريخ البشرية قد حقّق قفزاتٍ في التطوّر أسرع بعشر مرّات مما حققه حتى الآن.
توفيّ تشيرنشيفيسكي مساء السابع عشر من أكتوبر 1889 إثر نزيفٍ دماغيّ، بعد أن لاقى جرّاء نشاطاته المختلفة من سجنٍ وإبعادٍ وعزلة.