ادب وفن

قصة حب حقيقية / حسين طعمة

في ساعة نكد ونحس, وبمكان تفوح منه رائحة الاجرام والوحشية والموت بأقبيته ودهاليزه السرية, كان ضابط المخابرات يكمل نزهته معي , في محاولة منه للترهيب والتشفي وسد فراغ هوسه وما تفتقر إليه شخصيته القلقة, تلك التي تنم عنها وتفضحها حركاته الصبيانية المثيرة للشفقة. كان يعبث ويرمي كطفل, غنائم انتصاره الزائف, حزما من مظاريف كثيرة, على الطاولة التي أمامه , كانت هي رسائلي ورسائل ناتاشا . فكان هذا كافيا لتتضح الصورة المبهمة التي سببت لي الحيرة والقلق واللوم لها , حين انقطعت رسائلها وأخبارها.
هكذا هو الأمر إذن. وقع الصدمة عنيف جدا, شعرت حينها بدوار يأخذ بي ويلوحني, فتهالكت على كرسي قريب. كنت تائها..., وهائما, شارد الذهن في فضاء هلامي يمتد بعيدا, كانت هي تتبدى فيه كنورس, يختال على صفحة الماء المنساب في أماسي شط العرب، تومئ لي بضحكتها الرائعة المميزة, أن, تعال ... تعال .. ياعادل, فلننطلق بعيدا عن أبالسة العصر وسراق الحياة. غير إن صوتا منفرا, أجش قطع خيوط التجلي والانطلاق خلف تهويمة الحلم, مبددا بقبحه صورة ناتاشا وضحكتها الملائكية , كان ضابط المخابرات هذا ينفث دخان حقده بوجهي ,ويلوح لي مهددا:
_ رسائلك ورسائل (....... ) الروسية جميعها بحوزتنا, نسدي لك آخر نصيحة..., إن لم تكف عن لعبة الرسائل هذه وتنسى أمرها فستلقى مصيرا لا يسرك!.
كان هذا كافيا, ليجعلني ألوذ بالصمت في زمن الفجيعة, زمن الخوف والترهيب الذي تعددت أساليبه ووسائله وتناسلت, فالمخابرات والاستخبارات والأمن والأمن الخاص والمخبرون السريون ودائرة الإجرام والشرطة ومفارز الحزب والجيش الشعبي وغيرها الكثير مما كان خافيا .., كانت أسماء تثير الرعب في شعب سلم أمره لقدر أهوج ورهيب, فقد إرادته وهويته الوطنية والإنسانية وعاش ذليلا في أقسى فترة مظلمة من تأريخ العراق.
لم أكن معارضا للسلطة, حين تخرجي من الإعدادية عام 1973وبعدما تمت الموافقة على قبولي في منحة دراسية على نفقة وزارة الدفاع في الاتحاد السوفيتي السابق,كنت مسجلا ومنسبا على الكلية البحرية العسكرية هناك.
كانت المدن السوفيتية آنذاك, عالماً فسيحاً ومشرقاً وبهياً, خاصة للقادمين من عوالم مجهولة يسمونها بلدانا نامية, لا زالت تحبو باتجاه النور والتطلع للمستقبل. بهرتنا العاصمة موسكو بأنوارها وساحاتها وشوارعها الفسيحة وطراز بناياتها, مسارحها وفنونها وسيركها الشهير, مترو المدينة وعجلاتها الكهربائية .حدائقها الشاسعة ونصبها, كان كل شيء فيها مبهراً وجميلاً. لكن الأجمل في هذا كله يبقى وجه قابلته صدفة, وجه أربكني وأحدث خللا في كل ما خططت ورسمت وتصورت. لن يستطيع هذا المسمى إنسانا, رغم جبروته ونفوذه وإمكاناته اللامحدودة أن يتخطى لحظة ضعف تتسلل إليه من حيث لا يدري .كان حبي لها, عالما خارج كل ما أفضتم وأحرزتم على طول وجودكم أيها الذين تسمون أنفسكم بشرا, وتعتدون بتواريخكم المزيفة والمملوءة قسوة وكرها .كان حلما لا أريد له صحوا,هو دهشة عمري المستفز, حيث لا عمر ولا قرار دونها. في أروقة وزحام المترو كان وجه ناتاشا ضوءا منيرا يستفزني ,تمر ساهية رقراقة دون أن تدري, انها تخلف وراءها عطرا وبهجة يملأ المكان سحرا ونشوة. وأنا دون ان أدري ,وقفت في طريقها ,سددت منافذ درب الفراشة المهومة إلى الحقل ,وقلت :فراشة الحقول من أين أنت؟، قالت لي: دعني, أنا شاهدة العصر, وثمالة المتعبين والمؤرقين والمنفيين, ربما أكون بلسما لروحك, لكني بعد حين أصير جرحا غائرا وعثرة في زمنك الوئيد .في دفق هذياني المتواصل, كانت الفراشة تحوم حول المكان لا تجيد سوى التنكيل بي وتضييق الخناق حول مصير لا بد منه.لقد أطاحت بكل ما خططت ورسمت وأعددت, أجل, كنت مأخوذا بها, لا أعلم بماذا تفوهت وقلت, في دفق هذياني المتواصل, أرادت أن تواصل سيرها، غير إن الهذيان أخذ أبعادا أخرى, فأخذتها نوبة من الضحك, كنت اضحك معها دون وعي, فقد توقف العالم كله إجلالا لفتنة وروعة ضحكتها .كنت في حمى هذيان لا ينقطع ,أمسك يديها النديتين, فتحاول برقة أفلاتهما عبثا.
قالت: هل هي وسيلتك البارعة للإيقاع بالفتيات بهذه الطريقة !؟.
قلت: لم أجد نفسي يوما بمثل هذا الموقف أبدا , طيلة وجودي هنا...
مرت لحظات, كنت أسير معها في الساحة الفسيحة, قبل أن أفقدها وسط زحام المترو والدفق البشري الهائل في مدخله. عبثا تحاول هنا أن تعثر على أحد فقدته في غفلة ما,لذا كنت مثل غريق يبحث عن قشة نجاته,مذهولا متفرسا في وجوه قادمة وأخرى غادية دون جدوى. بعد أن أخذ مني التعب والإرهاق مأخذه ,عدت خائبا إلى مكان سكني في وقت متأخر من الليل. قال زميلي وشريكي في الغرفة أحمد , ان فتاة سألت عنك, وانتظرتك طويلا قبل أن تغادر.
كان الخبر قد أزال مني قلق وخوف فقدانها إلى الأبد. كنت قد ذكرت فيما ذكرت عنوان السكن, لذا كان وصولها سهلا لمكان سكن الطلبة العراقيين. لقد كان هاجسها إنني سأعود مع أول المساء, غير أني التصقت بالمكان عسى أن تعود, حتى ساعة متأخرة.
كانت ناتاشا صادقة ورقيقة ووفية, وفوق كل هذا بساطتها اللامتناهية التي أطرت طباعها فجعلت منها ملاكاً يمشي على الأرض.كان هذا كافيا لأحبها بصدق, تكلل هذا الحب في رباط مقدس, رغم القلق والخوف من مصيره ,في بلد لا يعرف قيمة أن يحب الإنسان, ويعلن انتهاكه للعاطفة الإنسانية حين يحرم الارتباط بامرأة أجنبية. لقد أثمر زواجي منها طفلا جميلا, لم ينعم بحنان أبيه, بعد العودة إلى العراق وضياع الأمل حين نشبت الحرب العراقية الإيرانية, وأضحى هاجس البقاء على قيد الحياة أملا لشعب بأكمله.
بعد خمس وثلاثين عاماً من اليأس والانتظار وسنين عمر احترقت وذوت في بوتقة الحرب وقسوة الحياة ومتاهات التسعينيات وما تلاها, كنت على متن الطائرة المتوجهة إلى موسكو, مرافقا ومترجما لوفد تقني لأحدى الوزارات العراقية. كان هاجس العثور على ناتاشا وابني الصغير, الذي أصبح عمره ألان خمساً وثلاثين عاما, يسبب لي قلقا كبيرا, بعد أن تعذر حتى على بعض العراقيين من المعارف والأصدقاء المقيمين هناك الوصول لمكانها وعنوانها في محاولات عديدة, وقيامهم ما أمكنهم من تقديم المساعدة حين كانت الظروف غير سانحة للسفر إلى روسيا.
تلك كانت رحلة البحث الأولى, في مدينة غيرت ألوانها وأشكالها ودلالاتها وشواهدها الأولى, فكنت مثل طائر يتيه في غابة تشابكت وتطاولت, بحثا عن عشه القديم, أجوب دروبا ملبدة بالثلج وأمكنة أضحت قلقا آخر وخسارة أخرى تضاف إلى هزائمنا واندحارنا في عالم مليء بالقسوة والأشرار الذين يعبثون بمصائرنا وأحلامنا. في ذاكرة معطلة لا استطيع معها ترتيب الأشياء والدلالات وفك طلاسم الحداثة التي لبستها المدينة لأكثر من ثلاثة عقود فتخبو نشوة الحلم والأمل في البحث والوصول لغايتي, ويضحى الأمر ضربا من الخيال,حتى لو قدمت الآنسة الجميلة, مرافقة الوفد, الروسية (ناسا ) الطيبة, كل ما يمكنها من جهد للوصول إلى خيوط حتى لو كانت واهنة .كانت خيبة الأمل مؤلمة جدا وخاصة بعد انقضاء فترة وجودنا هناك,وعودتنا إلى العراق. لست محظوظا على الدوام, لكن الأمر اختلف هذه المرة, فبعد شهر واحد من عودتي من روسيا, كنت مرة أخرى في مطار البصرة بعد أن نسبت ثانية مترجما لوفد آخر إلى العاصمة موسكو. طول فترة غيابي عنها بعودتي إلى العراق, كانت الطيبة الجميلة (ناسا), قد أعدت بعضا من المعلومات عن (فاسيلي) شقيق ناتاشا, بعد استحالة الوصول إليها مباشرة, لذا,حين وصولي إلى هناك, كانت لي دليلا ومرشدا تنقب وتستجلي وتبحث في أماكن تعرفها, واغلبها سجلات قديمة لبلدية موسكو وسجلات الهاتف وغيرها .وكانت تسجل العديد من ملاحظاتها وهوامشها على أسماء أماكن وشخوص, تعرضه أمامي محاولة ان تبدد الشك واليأس الذي يلازمني, فأصبح بمعيتها عدد من الأعوان والأصدقاء ,كانوا على اتصال دائم معها.
مضى يومان من وصولي مرة أخرى إلى موسكو, حين زفت لي بشرى العثور على عنوان شقيق زوجتي ,الذي يسكن مدينة غرب روسيا, وهي مدينة محاذية لفنلندا. كان علي أن أقضي مهمتي مع الوفد حتى أغادر للمدينة حسب العنوان. وبعد انقضاء فترة الإيفاد ودعت الجميع متوجها إلى قطار الساعة التاسعة المتجه غربا, فكنت في المدينة صباحا, سلمت العنوان إلى سائق الأجرة الذي حاول أن يتفادى الزحام بطرق مختصرة ووصل إلى العنوان بعد ساعة من الزمن, شاقا طريقه عبر الثلوج الكثيفة المتساقطة. أشر لي على المنزل ومضى , ولكن النحس ظل ملازما لي حين لم يرد أحد على طرقي المتواصل ,دخلت الحانة المقابلة لأهرب من الثلج المتساقط بغزارة,طلبت قدحا من الشاي, فبادرني صاحب الحانة وهو يتكلم عبر هاتفه الخلوي:هل تطلب أحدا ما يا سيدي؟. قلت: جئت لزيارة أحد أقاربي لكنه لم يكن موجودا في المنزل. كانت نظراته تشي بتوجس وريبة وهو يستمر بمكالماته عبر هاتفه. قلت كي أهدئ من روعه: المسألة لا تستحق الاهتمام ولكنها مهمة بالنسبة لي, فأن فاسيلي هو شقيق زوجتي التي جئت باحثا عنها بعد أعوام طويلة. بعد مضي وقت قصير كانت هناك جلبة وأصوات لسيارات الشرطة تقف أمام الحانة. قلت في سري إن المسألة أخذت أبعادا أخرى سببها صاحب الحانة واتصالاته وشكوكه. دلف الى الحانة العديد من رجال الشرطة يتقدمهم رجل طويل القامة وهو قائدهم على ما يبدو, أومأ لي إن تقدم إلى أمام !!فكانت فرصة لصاحب الحانة الذي ظل يصرخ هاهو ألشيشاني يا سيدي. من ثم سألني عن غايتي, فقلت على الفور: المسألة لا تستحق كل ما يحصل ,فأنا أسأل عن قريبي فاسيلي. رد: هل تعرفه؟، قلت: كان ذلك منذ خمس وثلاثين عاما, ربما أعرفه ألان.. رد القائد: من تكون؟، قلت على الفور: اسمي عادل وأنا زوج ناتاشا شقيقة فاسيلي. اقترب مني الرجل الطويل محدقا بي وقائلا: أنت عادل؟، قلت أجل. ولما اقترب مني أكثر توجست خيفة مما لا يحسب حسابه, لكنه احتضنني وحملني إلى أعلى وهو يصيح: عادل، عادل ها انتذا مرة أخرى!. لم تمت في الحرب أليس كذلك؟، أخذتني الدهشة فصرت أصرخ معه, لكنني توقفت أتفرس بوجهه, فقال على الفور: أجل يا عادل, أنا فاسيلي الصغير, مرافقك الدائم في ذهابك وإيابك, وأنا الآن مدير شرطة هذه المدينة. كنا قد انتظرناك طويلا وسألنا عنك حتى يئسنا من أخبارك فاعتقدنا انك انتهيت في الحرب. في بيته, كنت أصغي له وهو يسرد لي أحداث الأعوام التي تلت رجوعي إلى العراق, وما حصل لناتاشا من لوعة ومكابدة وهي تحتضن وليدها الصغير, بعد حياة زاخرة بالمحبة والروعة والانطلاق في عالم لا أجمل ولا أحلى منه. لذا بعدما فقدت الأمل تماما في الأعوام التالية هاجرت إلى فنلندا مع من هاجر من الأقارب والأصدقاء وحصلت على الجنسية هناك وافتتحت سوبر ماركت صغيرا توسع شيئا فشيئا ليصبح واسعا وكبيرا بفضل إصرارها ,ومثابرة ونشاط ولدها (ولدي). طلب مني (فاسيلي) أن أرى غرفتها, كانت جدرانها بانوراما لقصة حب جميلة, مثلتها صور طبعت بأحجام كبيرة ومتسلسلة زمنيا امتدت على طول جدران الغرفة, فكانت صورنا تملأ الجدران كلها وسط أكاليل من الزهور الجميلة.
قام فاسيلي بالاتصال مع ناتاشا وحين اخبرها بوجودي هنا ردت عليه كما في كل مرة كان يمازحها: إني مشغولة ألان ..دعنا من المزاح, ولكنه رد عليها: وإذا كان عادل موجودا في غرفتك ألان ماذا تقولين؟. وبين ترددها وعدم تصديقها, كانت قد أغمي عليها بعد سماع صوتي. ومن ثم بعد وقت قصير كانت تتصل عبر الهاتف لتقول لفاسيلي لا تدعه يمضي, فأنا قادمة. كنت اسمع صوتها وهي تصيح بصوت عال: أنا قادمة فورا!.
كان اللقاء لا يوصف أبدا... ,كانت تبكي وتضحك في ان واحد وهي تتعلق بي وتحتضنني مرة, وتقبلني أخرى ودموعها المنهمرة على وجهي لن تتوقف أبدا .لقد نسيت الزمن الطويل وسني العمر المتسارعة فعادت مثل طفلة صغيرة تبث ما بها من الحنان والحب الذي قتلته إرادة الأشرار والطغاة. في آخر لقاء لي مع عادل, بعد عودته من روسيا قال :رغم ما يعتريني من غبطة وفرح لتحقيقي حلم اللقاء مجددا معها ,إلا إن ابني رفض لقائي لأنه يظن إني السبب في هجرهم وعدم اهتمامي به طوال حياته .لكن عادل ابتسم أخيرا وقال :انظر لهذا التسجيل .كان صبيا جميلا يردد معه :أنا حفيد عادل .