مدارات

بواكير التغلغل البريطاني في العراق (1-2) / د. مجيد مسعود

تمهيد
هذه المقالة مستمدة بتصرف من موسوعة معنونة "دليل الخليج"، حيث يقول المؤلف البريطاني لوريمير أن تزايد أهمية الخليج بعد عام 1899 أدى إلى ظهور الحاجة إلى ملخص تاريخي وجغرافي لهذه المنطقة، ولهذا أَمَرَنا نائب الملك البريطاني في الهند بجمع مواد هذا الدليل عام 1903 فأعده المؤلف مع فريق عمل من مختلف التخصصات. وهو من قسمين، الأول لتاريخ المنطقة وما حولها، والثاني كمعجم جغرافي للمنطقة. نُشر قسمه الثاني عام 1908، أما القسم الأول فمات مؤلفه عام 1914 قبل إنهائه، فصدر بعد وفاته.
والقسم الأول من ستة مجلدات (2776 صفحة)، في حين القسم الثاني في سبعة مجلدات (2595 صفحة)، والملاحق تضمنت الخرائط وشجرات الأنساب للأسر الحاكمة.
نقدّم هذا الملخص المكثف عن شركة الهند الشرقية (نكتفي لاحقاً باختصار اسمها إلى "الشركة" أُعدَّ استناداً إلى الطبعة العربية التي أعدها الديوان الأميري في قطر. جدير بالذكر أن محتوى هذا الدليل قد تضمن آراء وملاحظات وتعابير ومسميات تُعبرُ عن رأي المؤلف ومن معه، وهو يحمل وجهة نظر السلطة البريطانية ومصالحها، لاسيما في فترة إصدار الدليل. ولهذا فهي بحاجة لمراجعة وتمحيص المؤرخين من أبناء المنطقة، وتحليل هذه الحقب التاريخية من منظور المصلحة العامة لشعوب المنطقة. وقد وجدت من المفيد إطلاع القراء على بعض الوقائع التاريخية كما وردت في هذا الدليل، لاسيما دور هذه الشركة في التمهيد للتغلغل البريطاني في العراق.
إن هذه الوقائع التاريخية تؤكد أن دور الدولة في البلدان التي نشأت فيها الثورة الصناعية وحققت التراكم الرأسمالي، كان كبيراً ومباشراً في حماية صناعاتها وتغذيتها بالمواد الأولية الرخيصة وغزو الأسواق حتى بالسلاح، وذلك بعكس ما يدعيه المطالبون بتحجيم دور الدولة في النشاط الاقتصادي، لصالح القطاع الخاص محلياً كان أم أجنبياً. والنتيجة هي شفط الفائض الاقتصادي الوطني وتسريب غالبيته للخارج، وبالتالي إجهاض محاولات التنمية الحقيقية لإشباع الحاجات الأساسية للمجتمع وفئاته الأساسية.

علاقة الدول الأوروبية بالخليج

عرفت الدول الأوروبية الخليج للمرة الأولى خلال المحاولات التي بذلها البرتغاليون في القرن السادس عشر للتخلص من احتكار العرب للتجارة بين آسيا وأوروبا، ثم ظهر الهولنديون في مطلع القرن السابع عشر، وعندما أحرزت بريطانيا انتصارها على الأسطول الاسباني عام 1588 كثّفت نشاطها التجاري مع الهند عبر هذه المنطقة. تأسست الشركة عام 1600 بمرسوم ملكي وكان عدد المساهمين الأصليين فيها (217) مساهماً، وبرأسمال مدفوع مقداره (68873) جنيهاً. بدأت بتثبيت أقدامها في الهند، بين عامي 1600 و1612 خرج (12) أسطولاً تجارياً بأموال المساهمين?إلى الهند، أي بمعدل أسطول واحد سنوياً. وفي عام 1608 وصلت أول سفينة إنكليزية إلى "سورات" في الهند، وكان قبطانها يحمل توصية من الملك البريطاني إلى حاكم سورات الذي استقبله بترحاب. وعام 1616 تأسست أولى الوكالات التجارية الإنكليزية في إيران, بواسطة ممثل الشركة، تنفيذاً لتعليمات المقر في لندن، ومعه خطاب من الملك يقره على فتح باب المتاجرة مع إيران، واضعاً بذلك حجر الأساس لمحطة على طريق الهند. كان طابع الشركة في ذلك الوقت تجارياً بشكل أساسي، لكنها أدركت بالتجربة أن الوضع والمكانة السياسيين تتغلبان في نهاية المطاف الى الصبغة التجارية.
انتقلت ملكية بومبي ومينائها عام 1661 من البرتغال إلى التاج البريطاني، كجزء من هدية زواج الأميرة البرتغالية من الملك البريطاني! مع تعهد بضمان سلامة أملاك البرتغال في جزر الهند الشرقية. تنازل ملك بريطانيا عام 1666 عن بومبي ومينائها للشركة مقابل إيجار سنوي قدره عشرة جنيهات سنوية...! فأقامت الشركة سلطتها، وبعد 18 عاماً نقلت مقرها الرئيسي في الهند إلى بومبي. وأرسل مقر الشركة في لندن عام 1690 تعليماته إلى رئاسة فرعها في بومبي، جاء فيها "إن زيادة الأرباح هي محل اهتمامنا بمقدار ما هي تجارتنا، وهذا هو الذي يحملنا على أن تكون لنا قوات نواجه بها أحوالاً قد يقع فيها لنا عشرون حادثاً تعرقل تجارتنا. إن هذا هو الأمر الذي يجعل منا أمة في الهند..."! هكذا وجهت الشركة التجارية نشاطها إلى سياسة السيادة الإقليمية على الأرض. وحين تأسست "شركة الهند الشرقية الجديدة"، اندمجت الشركتان عام 1708 باسم: الشركة المتحدة للتجار الإنكليز في جزر الهند الشرقية.

ملامح العراق في مطلع القرن 17

كتب الرحالة البرتغالي تيكسيرا الذي زار العراق عام 1604 وصفاً لمشاهداته، جاء فيها أن السور الذي يُحيط ببغداد من الشرق، كان مبنياً من الآجر المحروق. ترتبط به عدة منشآت، بينها أربعة تحصينات في كل منها عدد من المدافع البرونزية الثقيلة وهي بحالة جيدة. وخارج السور خندق عميق، وفي بغداد دار لصك النقود الذهبية والفضية والمعدنية. وفيها مدرستان إحداهما للرماة والثانية لحملة البنادق. وكانت التجارة تسير إلى الهند عن طريق دجلة فالبصرة. وإلى حلب عبر الصحراء، وفي أوقات السلم هناك طريق مباشر للتجارة مع إيران.

بداية التجارة البريطانية في العراق

بدأت العلاقات التجارية بين بريطانيا والعراق بإرسال باخرة عليها شحنة صغيرة إلى البصرة عام 1635. وبعد خمس سنوات وتحت ضغط المنافسة مع الهولنديين، أرسلت الشركة اثنين من موظفيها إلى البصرة. إلا أن السوق كان مُتخماً بسلع أسطول برتغالي قادم من مسقط، لهذا لم يبيعا من شحنتهما إلا ما قيمته 30 ألف ربية. ويبدو أن الاضطرابات السياسية في العراق عام 1614 قد أعاقت تقدم الشركة، وبعد عامين فتحت في البصرة وكالة تجارية واجهت منافسة الهولنديين. عام 1657 صادرها والي البصرة، بسبب إشاعة روّجها التجار عن قرب تصفية الشركة لأعمالها ?ي العراق. لكنها بعد أربع سنوات أرسلت مندوبيها كرانمر وسانتهيل إلى البصرة على ظهر الفرقاطة أميريتا وهي تحمل شحنة من الأقمشة والفلفل والأخشاب والرز وغير ذلك، على أن يُذكرا الوالي بوعده بأن يُقدم للشركة مقراً أفضل من الذي استولى عليه.
عام 1661 وقعت بريطانيا وتركيا اتفاقية الامتيازات الأجنبية في الشرق، التي حددت بشكل عام حقوق رعايا بريطانيا في الامبراطورية العثمانية ومنها العراق.

الهولنديون والفرنسيون في العراق

خلال تلك الفترة كان للهولنديين مقيمية في البصرة، وقد ألقت السلطات التركية القبض على المقيم بتهمة علاقته مع إحدى البغايا...! وقبل إطلاق سراحه أجبروه على دفع رشوة (50) ألف روبية، بعدها سافر البارون العاشق، وأُغلقت المقيمية الهولندية.

تزايد نفوذ الشركة

تشير بعض الأحداث إلى تزايد نفوذ الشركة خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر. فعلى سبيل المثال حصل نزاع بين قبيلة بني كعب والسلطة التركية، حيث كتب الوالي علي باشا في تشرين الأول 1763 إلى مسؤول وكالة الشركة قائلاً: إنني أريد في سبيل تأمين مصالح حكومتي أن أسير بجيش عن طريق البر، وترسل أنت سفنك لمحاصرة مصب النهر، ولك الحرية المطلقة في أن تحرق وتدمر، أو تستولي على أي شيء تصادفه مما تملكه قبيلة بني كعب... أرجو أن تثق بأن مساعدتكم الفعالة هذه ستلقى من السلطان كل اعتراف وتعويض...".
وتنوعت تجارة الشركة من استيراد المنسوجات الحريرية الرقيقة والصوفية الخشنة، كما كان البن اليمني بنداً هاماً من قائمة المستوردات. وأصبح تصدير التمور العراقية تجارة رابحة للشركة. وقد أبدى مجلس إدارة الشركة اهتمامه بضرورة المحافظة على الطريق البري للاتصال بين أوروبا والهند عبر البصرة – بغداد – حلب. حيث كان يرتاده مسافرون أوروبيون معظمهم من العاملين في الشركة أو في رعايتها، ممن كانت تواجههم مخاطر تطلبت اتخاذ إجراءات للحماية.

تنظيم عمل الوكالة

دبت الخلافات بين العاملين في الوكالة وتبادلوا الاتهامات باختلاس أموال الشركة، مما أدى إلى فصل عدد منهم بعد تحقيق أجراه مبعوثا الشركة، كما أن العلاقة بين الوكالة ومجلس الإدارة في بومبي أو المقر الرئيسي في لندن مرت بأزمات، وحصلت شكاوى من تجار البصرة عن تأخير الوكالة لنقل بضائعهم من الهند، مما دفع المقر في لندن لإعادة تنظيم عمل الوكالة.
كانت القبائل جنوب بغداد مستقلة عملياً، تدفع أموالاً للوالي مقابل حمايته لها. وكانت مقرات شيوخ القبائل تتوفر فيها مواد التموين الضرورية، ولديهم الخيول الأصيلة، وكانوا يجبون الضرائب على القوارب النهرية باسم الشيوخ ولصالحهم. أما السلطات التركية فكانت تجبي الضرائب المختلفة، مثل ضريبة البحر في ثغر البصرة بواقع 3 بالمائة من قيمة البضائع التي يوردها التجار، وترتفع أحياناً إلى 8 بالمائة. كما تجبى الضريبة نفسها على البضائع التي تشحن إلى خارج العراق من البصرة، وإلى بغداد وحلب. وهناك ضريبة على النخيل والتمور، ورسوم أ?رى لقاء بعض الخدمات. وكانت بغداد مركزاً تجارياً وصفها بارسونز: "إنها السوق الكبير لمنتجات الهند وإيران والقسطنطينية وحلب ودمشق، باختصار إنها أكبر مخزن في الشرق".
في خريف 1773 كان الحاكم الإيراني في كرمنشاه يعد قواته لاحتلال كردستان التي كانت تابعة لولاية بغداد. وكانت الحجة الظاهرية لدوافع الهجوم المحتمل سوء معاملة الزوار للعتبات المقدسة، والمطالبة بإلغاء الضريبة التي تستوفى منهم. أما السبب الفعلي لهذا التوتر فيعود إلى سعي الشركة لتحويل طرق تجارتها من الهند عبر إيران واستبدالها بالعراق.

الأتراك يستعيدون البصرة

كان احتلال الإيرانيين للبصرة عبئاً ثقيلاً عليهم، ومشروعاً خاسراً اقتصادياً، ولهذا انتهى عام 1779. فقد أرسل صديق خان مندوبيه للتشاور مع لاتوشوايراهام، حيث حصل منهما على قرض بقيمة 600 تومان لنفقات نقل قواته الإيرانية. وبعد رحيلهم سيطر رجال بني كعب والمنتفك على المدينة إلى حين إعادة السلطة التركية السيطرة عليها. وانتعشت التجارة البريطانية في البصرة خلال السنوات العشر التالية لرحيل الإيرانيين، ثم تراجعت بسبب تمرد رئيس قبيلة المنتفك وسيطرته على المدينة لفترة قصيرة، بعدها طاردته السلطات التركية وفرضت حكمها على البصرة.
عندما شغر منصب الوالي في بغداد، قام ممثل الشركة بإرسال الأموال للسفير البريطاني في القسطنطينية لارشاء كبار الموظفين وأم السلطان لقبول مرشحهم سليمان باشا، الذي كان مديناً للوكالة مالياً ومعنوياً لإطلاق سراحه من السجن الإيراني، ولهذا كان مخلصاً للبريطانيين. وعند تسلمه لمنصب والي بغداد قدمت الشركة له كشفاً بمبلغ (2000) جنيه، طالبوه بتسديدها، وهي بمثابة التكاليف التي أوصلته لهذا المنصب، وكان الوالي لا يخفي شكوكه من كون السفير قد احتفظ لنفسه بالقسم الأكبر من هذا المبلغ. في عام 1783 وافقت حكومة بومبي على اقتراح ?لمقيم بتعيين وكيل دائم للشركة من أهل البلاد ويكون مقره في بغداد وبمرتب شهري (100) روبية. وتكون مهمته تسهيل الأمور للشركة من قبل والي بغداد، وتم ذلك اعتباراً من حزيران 1781، ومكافأة لخدماته صرفت له رواتب عن الفترة السابقة.
تأزمت علاقة الشركة في العراق في نهاية حكم سليمان وكان السبب الظاهر دفاع المقيم البريطاني عن مسيحي متهم بقتل يهودي، فقامت الجالية اليهودية بتهديد المقيم البريطاني وتمزيق علم الشركة، ونظراً لتردد الوالي في حسم الموضوع، انسحب المقيم مع بعض موظفي الشركة إلى الكويت وصارت الوكالة تدير عملها من هناك. وعندما تقدم الوالي بشكوى لمقر الشركة في لندن، صار أمرها في نيسان 1795 بتعيين مقيم جديد وعودة الوكالة لممارسة نشاطها في البصرة.
ثم صدر قرار عام 1798 جاء فيه: بناء على اقتراح هارفورد جونز فقد عَيَّنه صاحب الجلالة الملك واللجنة السرية للشركة مقيماً لدى الوالي سليمان في بغداد بدرجة وكيل سياسي، وتقديم العون المالي للباب العالي، والعمل معاً لإحباط مخططات نابليون التي تستهدف المشرق. وبهذا وضعت أسس الاتفاق البريطاني – التركي المضاد لنابليون في المشرق.
توسعت المقيمية البريطانية في بغداد وتم تزويدها عام 1800 بحرس من الهند قوامه 3 ضباط و26 مجنداً من الهنود، كما جرى تعيين بريطاني لفحص الوالي بتوجيه من المقيم كإشارة لتحسن العلاقات بينها. وظلت المراسلات الرسمية تنقل بانتظام عبر الصحراء من البصرة إلى بغداد فحلب ومنها إلى لندن.

اضطراب الوضع في العراق

عام 1801 قرر الباب العالي عزل والي بغداد فحاول التمرد، وحين تخلى عنه أنصاره، عمد إلى الفرار وبعد عبوره نهر ديالى هدم الجسر لتأمين مؤخرته، ولكن استطاع أفراد من قبيلة شمر القضاء عليه ومن معه، فعيّن الباب العالي عبد الله والياً على بغداد، فوصفه المقيم البريطاني بأنه واسع الثقافة مقتدراً إدارياً ومتحرراً دينياً، وأنه موال للإنكليز معتبراً مصالحهم لا يمكن فصلها عن مصالح الباب العالي في مثل هذه البلدان...! وكان من أول أعماله تعيين مُتَسلّماً جديداً للبصرة يؤمن مصالح الشركة أفضل من سلفه، وقام بحملة عسكرية ضد عبد الرحمن باشا الكردي مستهدفاً إخضاع كل كردستان لتصبح ولاية بغداد أقوى أقاليم الامبراطورية العثمانية فلم يفلح بتحقيق حلمه هذا. ثم اصطدم بقبيلة المنتفك بزعامة الشيخ حميد بن ثامر، فغلبته واستسلم لها مقابل ضمان سلامته، إلا أنه قتل، وازدادت هذه القبيلة قوة على أثر انتصارها على والي بغداد عام 1813.
تقدم والي بغداد الجديد بطلب أسلحة وذخائر وخبرات ضباط إنكليز، وأنه سيدفع جميع التكاليف. في البداية رفضت حكومة الهند هذا الطلب. إلا أن مجلس مدراء الشركة أوصى بقبوله مبيناً "لا شيء أرخص من المعلومات، وهي ميزة للدولة التي تحوز عليها، مقارنة بتلك التي لا تتوفر لها مثلها، ونحن نود أن يكون هذا في ذهنكم دائماً، وبكل البلاد المجاورة".
وكانت أطماع روسيا قد أصبحت عاملاً هاماً في رسم السياسة البريطانية في آسيا، وربما كان مجلس إدارة الشركة مهتماً بالموضوع، لأنه يخشى تسلل أوروبيين من غير بريطانيا إلى العراق بصفة خبراء ومدربين عسكريين، وهذا أحد أسباب نصيحته بقبول طلب والي بغداد والمماثل له.

نفوذ بريطاني دائم

بطلب من حكومة بريطانيا زار الرحالة فرايزر العراق عام 1834 وقدم تقريراً جاء فيه: "لايمكن أن نسهب في وصف الميدان الذي يفتحه التغيير في الحكومة في ما يخص الصناعة ورأس المال بين النهرين. إنها من أفضل المناطق مناخياً وتربة وقرباً من مراكز الحضارة والتمدن في العالم القديم. وإذا تطور الإقليم العراقي وساده الهدوء والأمن فإنه سيصبح هدفاً هاماً من أهداف الدولة البريطانية، ومهما كان شكل الحكومة التي تقوم فيه، أو طبيعة ومدى ارتباطها بالباب العالي مستقبلاَ، فإن على الدولة البريطانية، واجباً وفرضاً أن يكون لها نفوذ دائم في حكومته. بل أنها يجب أن تقوم هي نفسها بتوجيه كل السياسة والإشراف على جميع التطوير والاصلاح، مهما كانت الأداة التنفيذية التي تنفذ رغباتها".
تمت خلال الفترة 1826 – 1832 عمليات مسح هامة لجزء من ساحل بلاد الشام ولنهري دجلة والفرات، وبشكل خاص أسفل دجلة كمنطقة هامة. وفي عام 1833 قابل الكابتن تشيزني الذي وضع خطة الاتصال بالهند عن طريق العراق الملك فشجعه على الاستمرار ونصحه بإعداد أسطول بخاري صغير، يكون مرساه بين النهرين ليساعد على عرقلة تقدم روسيا. وقد وافقت لجنة الملاحة التجارية على هذا المشروع واعتمدت له مبلغ (20) ألف جنيه، أضافت إليه الشركة (5) آلاف جنيه. وأصدرت الحكومة التركية فرماناً يسمح لشركة الملاحة البريطانية بتسيير سفن بخارية في الفرات، لس?هيل التجارة بين البلدين وهكذا فقد صممت الباخرتان "دجلة" و"الفرات" في ليفربول، ونقلتا قطعاً صغيرة عبر الصحراء إلى الفرات الأعلى. ووضع مرجل الباخرة بعربة يجرها (104) من الثيران القوية، ومعها (52) رجلاً، مروراً بسوريا التي كانت عهد ذاك تحت حكم محمد علي باشا والي مصر.

مجزرة كربلاء

عاشت كربلاء منذ 1842، ولحوالي العشرين عاماً، أشبه بجمهورية ذات حكم ذاتي، معفاة من مطالب ممثلي الباب العالي. وكانت قد شهدت تمرداً أدى إلى مقتل ثلاثة مبعوثين ممن أوفدهم إليها والي بغداد. وعندما تولى نجيب باشا ولاية بغداد، أراد أن يمد نفوذه إلى كربلاء فاصطدم مع أهلها الذين استعانوا بمسلحي العشائر المجاورة. وعندما أمر الوالي نجيب بالزحف بفرقة من الفرسان مع عشرين مدفعاً وثلاث فرق مشاة إلى كربلاء، ومحاصرتها. وبرفضهم الاستجابة اشتعلت المعارك، وكان ميزان القوى لصالح قوات الوالي، التي ارتكبت مجزرة دموية بأهالي كربل?ء وسلبت ممتلكاتهم، وحولت مرقد العباس بن علي بن أبي طالب إلى ثكنة عسكرية ومربطاً لخيولهم، إمعاناً في إذلالهم بإهانة مقدساتهم.

الضرائب المتزايدة على الفلاحين

في صيف 1849 نشأت أزمة حادة حول شط الهندية، نتيجة الضرائب الباهظة على أراضي المزارعين، فثارت قبائل المنطقة وطردت الملتزم بجمع الضرائب مع معاونيه، وسيطر الفلاحون على مخازن محصول الحنطة، الذي هو أصلاً من ثمرة عملهم.
وفي ذات الوقت ثارت قبيلة شمر في المنطقة الواقعة بين سامراء وتكريت، وتمكن الوالي التركي نجيب باشا بالاستعانة ببعض المأجورين من قتل رئيس القبيلة وإخماد انتفاضتها، كما فعل مع قبيلة بني لام في الهندية والمناصرين لها من قبائل المنتفك والظافر والدليم وعفج وخزعل.
وفي هذا الوقت الحرج للوالي توحد أهل النجف وأعلنوا ثورتهم ضده، فجند لهم قوات الحلة والديوانية بقيادة سليم باشا. وفي المقابل حصن الأهالي أنفسهم بالخنادق في الأحياء الآهلة بالناس، وأقاموا المتاريس في الطرقات وربطوا البيوت بشبكة من الألغام والدهاليز (آبار المياه المتصلة ببعضها ولها منافذ في المنازل). ومن المعروف أن الجندي التركي يحارب في الميادين المكشوفة، إلا أن عزيمته تنهار أمام المقاوم الكامن المختفي المؤمن بقضيته.
وفي هذه الظروف لم ير سليم باشا أمامه إلا طلب المفاوضة مع الأهالي بواسطة المجتهدين. وجاءت تسوية بترحيل زعماء المنتفضين إلى خارج المدينة مع سلاحهم، ولما هدأت الحالة غدر الحكمدار بالأهالي وهاجمهم بعد أن ضعفت مقاومتهم فأوقع فيهم خسائر كبيرة. وظلت الحامية العسكرية في النجف على عكس ما جاء في اتفاق التسوية، وهذا ما دفع الأهالي للعودة للإنتفاض بعد سنتين فتمكنوا من طرد القوات التركية عن المدينة.
حكومة إقليم العراق وصفها القائد البريطاني جونز عهدذاك بالقول: "لا هم لها إلا إضعاف هؤلاء الفقراء الذين إذا اتحدوا عرفوا السبيل لهز أركان الدولة". وأضاف قائلاً "إن هذه البلاد لا تعرف قتل الناس بسبب معتقداتهم الدينية (...) وهناك تسامح في معاملة اليهود والمسيحيين، حيث أنهم يتمتعون بحصانة لا يتمتع بها إخوانهم في أي مكان آخر...".
وتم تشكيل فريق فني بريطاني روسي بوجود ممثلين للأتراك والإيرانيين لرسم الحدود بين البلدين وفقاً لنصوص معاهدة أرضروم الثانية.

تضخم المصالح البريطانية في العراق

تميزت الفترة 1839 – 1861 بتضخم المصالح البريطانية في العراق (تحت الحكم التركي) مع زيادة الصعوبات في الحفاظ عليها وحمايتها. كما يلاحظ بأن المصالح التجارية الخاصة بالرعايا البريطانيين والمصالح السياسية للحكومة البريطانية لم يكونا على وفاق دائماً خلال تلك الحقبة. ففي عام 1845 كانت الشركات البريطانية العاملة في بغداد هي:
1 – السادة ميلز وشركاهم.
2 – السادة أ. هكتور وشركاهم. 3 – السادة لنش وشركاهم.
في عام 1859 طلبت شركة السادة لينش وشركاهم الحصول على فرمان رسمي "تمنح بموجبه حق الملاحة في أنهار البلاد بسفن بخارية بريطانية مسجلة". واستجابة لهذا الطلب صدر الكتاب الوزاري عام 1861 حيث نجحت الشركة بموجبه في إنزال سفينة بخارية لها تدعى "مدينة لندن".
وخلافاً لتوجه حكومة بومباي بالمطالبة بإلغاء الوكالة السياسية البريطانية في العراق بحجة تقليص النفقات، بقيت حكومة الهند مصرة على إبقاء الوكالة وتعيين العقيد رولينسون ودعمه، بسبب ثقتها بإمكانات العراق الهائلة للمصالح البريطانية.
أرسلت شركة الهند الشرقية ثلاث سفن بخارية إضافية صنعت من الحديد ووصلت من انجلترا عبر ممر رأس الرجاء الصالح، وهي "آشور" و"نمرود" و"نيثوكريس"، إضافة إلى سفينة "الفرات" التي كانت الشركة قد احتفظت بها في العراق. وصارت هذه السفن الأربع المسلحة تشكل أسطولاً تجارياً يعمل في نهري دجلة والفرات بقيادة الملازم هـ. ب. لينش. وكان وقودها من خشب العبل يمدها به الأهالي في المحطات المعينة بموجب عقود مبرمة.
قام البريطانيون خلال تلك الفترة بالاستكشافات وأعمال المسح في نهري دجلة والفرات والمنطقة المحاذية إلى إيران من أجل ترسيم الحدود. وفي عام 1853 تم وضع مشروع تخطيط شامل لمدينة بغداد، الذي استعاره والي بغداد والمقيم البريطاني فيما بعد في عام 1912 لأغراض مشروع إضاءة بغداد بالكهرباء وتأسيس ترامواي كهربائي. وقام القائد (جونز) ومعاونوه باستكمال هذه المسوح للمنطقة الممتدة من المسيب على نهر الفرات حتى الزاوية الشرقية – الغربية من بحر النجف. وأعاد خلفه القائد (سلبي) مسح مناطق بابل وكربلاء والكوفة والنجف بالطريقة التثل?ثية. كما جرت أعمال التنقيب عن الآثار في مواقع متعددة. وبهذا تحول العراق من بلد مجهول للبريطانيين إلى بلد رسمت معالمه الرئيسية بشكل واضح.

مشروع سكة حديد وادي نهر الفرات

انتهى التفكير في المشروع الداعي لإنشاء مواصلات سريعة بين أوربا والهند، بإنشاء سكة حديد تحت الرعاية البريطانية من البحر الأبيض المتوسط حتى الخليج مروراً بوادي نهر الفرات(*). وكانت شركة الهند الشرقية سنداً له، وتم الحصول على امتياز له من الباب العالي، وطلب الدعم المالي له من الحكومة البريطانية. ويبدو أن الحكومة البريطانية قد توصلت في النهاية بأن ليس في إمكانها إعطاء ضمانة مالية لهذا المشروع. ثم اتضح بأنه دون ضمانة يرتكز لها يصبح غير مغر لأصحاب المال فانقضت المدة المقررة لاستعمال حق الامتياز دون أن تنتفع منه الشركة.
ومن مشاريع تلك الحقبة تنظيف قناة الحسينية التي تمد كربلاء بمياه الفرات والبالغ طولها عشرين ميلاً، بسبب كثرة رواسب الطين فيها، وعجز السلطة التركية الحاكمة عن تنفيذ هذا المشروع. فتبرع مير ناصر خان الزند بمائة ألف روبية، معتبراً ذلك واجباً دينياً، فأنجز المشروع.
وتشير وصية الملك أوضى في الهند (زوج ممتاز محل) إلى شركة الهند الشرقية، التي أقرضها مبلغاً كبيراً من المال، بأن تحول نصف أقساط القرض إلى النجف وكربلاء لصرفها بواسطة المجتهدين على المستحقين، اكتساباً لمرضاة الله. وجاء في إحدى رسائل رولينسون "إن هناك مبالغ محترمة حولت من أهدافها الخيرية لتصرف في سبيل أطماع شخصية.. وإن السلطات التركية قد امتعضت من الدفعات السرية للأماكن المقدسة في النجف وكربلاء من الهند بواسطة السلطات البريطانية..". واقترح رولينسون كعلاج لهذه المشكلة وضع الدفعات المالية لدى الوكيل السياسي في محكمة بغداد ليتم الصرف بمعرفتها ومراقبتها!! وعندما جاء الاعتراض من الهند مطالباً بتنفيذ الوصية، اتصل رولينسون بالمجتهدين في النجف وكربلاء، ميرزا علي ناجي والشيخ مرتضى، فاستجابا بترحاب كلي لكل اقتراح طرحه لكيفية التصرف بالأموال المحولة للأماكن المقدسة.