مدارات

التدمير الإسرائيلي الممنهج للحياة.. والعالم يتفرج!

القدس - مارتن ليجونه

ترجمة عصام الياسري
مضت أكثر من ثلاثة أسابيع والشعب الفلسطيني يعاني، دون معين من حرب بربرية تقوم بها آلة قتل متطورة على مدى الساعة تستهدف المدنيين الأبرياء، الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، وبينما تدمر البيوت والبشر يسحقون بدم بارد فان العالم لا يتفرج فقط دون خجل أو تأنيب للضمير بشكل لم يسبق له مثيل، انما يدعم الحرب على غزة و يمد آلة القتل بالعون العسكري.
صباح يوم الثلاثاء 29 يوليو 2014، وأنا في طريقي إلى فندق شاطئ الديرة لإرسال هذا النص، اكتشفت مدى الدمار الذي تركته آلة الحرب الإسرائيلية في تلك الليلة. في كل مكان في الشوارع تتراكم الشظايا وحطام المنازل. الآن أرى أيضا مسجد الأمين وقد دمر تماما.
على مدى ساعات الليل كنت أحاول الاتصال مع جميع محطات ARD الألمانية لأخبرهم بحجم الجحيم في مدينة غزة، أنها جهنم، لكن محاولاتي بلا جدوى. محطة "MDR" الألمانية في مدينة هاله، المحطة الوحيدة التي استجابت لندائي بالقول: لقد فعلت عملا صالحا.
إسرائيل صعدت هجماتها في غزة بشكل كبير في الليل. مدينة غزة تتعرض على مدى ساعات لإطلاق نار كثيف من قبل الطائرات المقاتلة والسفن الحربية والمدفعية. لقطات تلفزيونية تكشف عن حجم النيران وسلسلة كاملة من الانفجارات. من بين ما حدث، تعرض مقر تلفزيون حماس وأحد المساجد ومنزل رئيس الوزراء الفلسطيني السابق إسماعيل هنية للقصف والدمار. أحد الصحفيين الألمان في غزة تحدث لمحطة ARD عبر الهاتف عن أعنف الهجمات منذ بدء الحرب: "مثل هكذا جحيم دموي لم أر أبدا"ً. أماكن كثيرة في غزة قصفت أيضا دون هوادة، ووفقا لمصادر فلسطينية، هناك العشرات من القتلى والجرحى.
وصلت إلى قطاع غزة في الثاني والعشرون من تموز و الحرب منذ 22 يوما مستمرة، ولا أستطيع على الإطلاق أن أصدق ما يحدث هنا، أنها أسوأ أيام حياتي، كل سكان غزة يواجهون أسوأ أيام حياتهم، لأن ما يحدث في غزة من هجمات صاروخية ضخمة بأسلحة فتاكة متطورة ومروعة للغاية، لم يشهد لها مثيل إلا في هذه الأسابيع.
ما أود أن أعبر عنه من وراء هذه الكلمات، بأن ما يحدث في غزة هو "مأساة" بشرية وكارثة إنسانية بلغت ذروتها من جديد.
الحرب على غزة، هي حرب ضد المدنيين العزل. لست أنا فقط من يقول هذا، ولكن أيضا الناس والصحفيين الذين أتكلم معهم، وبعضهم من قام الى حد كبير بتغطية بعض الحروب في العقد الماضي (أفغانستان، العراق، ليبيا، سوريا، الخ ...). جميعهم يتحدث عن حرب جديدة من نوع خاص. في كل مكان تتساقط الصواريخ على المنازل التي تعيش فيها العائلات وعلى المساجد التي يتعبد فيها الناس، وعلى المدارس والمستشفيات.
في وقت مبكر من مساء يوم 30 تموز، بينما كنا جالسين على الشرفة، قصفت طائرة مقاتلة F16 مبنى سكني على نحو قريب كان حتى ذلك الحين يبعد عنا 50 متراً. قبل فترة وجيزة سمعت حمار يصرخ بشكل هستيري، كما لو كان يعلم بالفعل الهجوم ويحاول تحذيرنا.
شظايا وحطام تطاير بسرعة فائقة باتجاه منزلنا وكادت ان تصيبنا. سحابة من الغبار غطت كل ما يحيط بالمكان وتعرضت نظارتي وحاسوبي المحمول لبعضه، وأحسست بالتراب يجرش بين أسناني. بعد نصف دقيقة انقشع الغبار وخف الدخان، ورأيت ذلك الأب الذي كنت أتحدث معه في الشارع قبل قليل وهو يحاول حماية أطفاله وراء حفارة حديدية لحمايتهم من غارة صاروخية جديدة، هذه المقطورة تعود لشركة بناء ومقاولات تقف مقابل منزلنا بعد انتهاء العمل. ركضت على الفور نحو أنقاض المبنى السكني المقصوف لأتفقد الجرحى، رأيت تلك العائلة التي كنت التقيها وأتحدث إليها في الشارع قبل القصف. قمت بواسطة النقال تصوير وصول سيارات الإسعاف لنقل المصابين والقتلى إلى المستشفى. أيضاً الحجارة والزجاج وأعمدة الكهرباء المتناثرة على الطريق.
منذ وصولي الى هنا وأنا أشاهد الأهداف المدنية تقصف بالصواريخ ليل نهار في سماء مكشوفة و رؤية واضحة، من بين هذه الأهداف، قصف مدرسة بنات ابتدائية في بيت حانون تابعة لـ " الأمم المتحدة " وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين GPS، كان المئات من اللاجئين يقيمون فيها. إلا أن ذلك لم يمنع إسرائيل من قصفها على الرغم من أن المنظمة قد أعطت سابقا كل تفاصيل المدرسة إلى القيادة العامة لقوات الدفاع الإسرائيلية.
لا أتذكر على وجه التحديد العدد الدقيق للقتلى وليس لدي الانترنت هنا لاجراء البحث والتدقيق في الأمر. ففي احد مخيمات اللاجئين، حيث كان عند مدخله ثمانية أطفال يلعبون، قتلوا جميعهم جراء صاروخ. وفي وقت متأخر بعد الظهر من 30 يوليو قصف سوق في شمال قطاع غزة، راح ضحيته 17 شخصا، وجرح 160 فلسطيني كانوا يقومون بالتسوق هناك. لقد بلغ عدد القتلى المدنيين الفلسطينيين على يد الاسرائيليين منذ 8 يوليو على أكثر من 1000 مدني ويمكن أن تتسع القائمة اذا لم يوضع لها حد عاجل. لا أستطيع أن أفهم لماذا القوات الإسرائيلية تفعل مثل هذا الشيء؟ لماذا تقصف عمداً أهدافا وأماكن مكتظة بالسكان المدنيين وكما يبدو حشود الناس ؟ لا أفهم لماذا يقتل الطيارون مرارا وتكرارا عن قصد، النساء والأطفال ؟ رغم المعرفة الدقيقة للأهداف التي كانت طائرات الاستطلاع بدون طيار في كل مكان، تزودهم بصور بالغة الدقة حول طبيعة المكان، ما المعايير الأخلاقية التي يتبعها أسياد السماء إزاء الحياة والموت؟ انهم يجلسون في طائرات مقاتلة تم تصميمها بدقة فائقة وأكثر تطورا يتباهون بـ" ضربات تستهدف " مدنيين.
في الحروب، وفقا للقانونين الدولية المتعلقة بها جنود تقتل الجنود، إنما استهداف ومهاجمة المدنيين، مثل العائلة في بيت جارنا، والأطفال في الحديقة، واللاجئين في مدرسة الأمم المتحدة، أمراً غير مقبول على الإطلاق، وليس ثمة تشريعات تحميه من الناحية القانونية.
شعب غزة يتساءلون لماذا القادة الألمان والأوروبيون لا يدينون هذا الانتهاك الصارخ للاتفاقيات الدولية ولا يدينون ارتكاب جرائم الحرب التي ترتكب من قبل القوات الإسرائيلية يوميا هنا في قطاع غزة!
لم يتوان الإسرائيليون أيضا، عن قصف المستشفيات ومحطات المياه ومحطة توليد الكهرباء الوحيدة في قطاع غزة. في حينا وسط مدينة غزة، يقع مركز يسمى "بيفرلي هيلز" كان لا يزال لديه حتى قبل ثلاثة اسابيع بنية تحتية سليمة إلى حد ما، لا يحصل أحد الآن على المياه الجارية. نغسل أنفسنا بماء من زجاجات بلاستيكية نشتريها من دكان شعبي بجوارنا. في ليلة 29 تموز ، تعرضت محطة توليد الكهرباء للقصف، لا يوجد الآن كهرباء ولا شبكة انترنت. والهاتف الثابت توقف، الهاتف النقال هو الوسيلة الوحيدة للاتصال التي لا تزال تعمل، والتي هي على المدى الطويل بالطبع مكلفة للغاية. أكتب هذا التقرير وأنا اجلس في فندق الديرة الذي لديه مولد خاص وتتواجد به وكالة الأنباء الفرنسية والتي لديها شبكة Wi-Fi خاصة بها.
لا يوجد المزيد من الخبز في قطاع غزة. لا يوجد مزيد من أماكن شراء الخبز. لا أحد يشتري الخبز، نحن نأكل الخبز الذي تقوم بخبزه زوجة مضيفي ماهر في فناء المنزل، في فرن قديم يعمل بالفحم. نحن نأكل الخبز مع الزعتر المخلوط بزيت الزيتون وبذور السمسم والملح، هذا ما نأكله كل يوم. حتى لو كانت هناك أمكانية لشراء الخبز، لم يكن لدينا المال لدفع ثمن ما في وسعنا شراؤه. منذ بداية الحرب لم يكن هناك سيولة نقدية في أجهزة الصراف الآلي، لان البنوك مغلقة و وزارة المالية دمرت بالكامل، ولم تعد بطاقات الائتمان والصرف البنكي مفيدة للاستعمال. عندما نذهب لشراء الطحين والزيت من بقال قريب نسجل لديه ما نتبضعه لندفعه في وقت لاحق، كالكثيرين الذين لا يجدون غير هذه الوسيلة في مثل هذه الظروف.
ليس هناك ثمة حركة في الحياة العامة في قطاع غزة. جميع المؤسسات والوكالات والمكاتب متوقفة عن العمل، حتى المحلات التجارية والمطاعم تم إغلاق اغلبها. الناس لا يخرجون من المنازل الا إذا لزم الأمر. الشواطئ والحدائق مهجورة، آخر أربعة اطفال كانوا يلعبون كرة القدم على الشاطئ، قتلوا بصاروخ اسرائيلي. لم يكن من مقاتلي حماس أو قاذفات صواريخ في المنطقة المجاورة للقصف، أفاد شهود عيان بالإجماع.
أنا أعيش في بناية سكنية من طابقين بأربعة شقق بالقرب من مسجد الأمين الذي تعرض يوم 29 تموز للقصف. عشرة أشخاص كانوا يعيشون في العمارة قبل بدء الحرب. الآن 70 يتقاسمون شقتين، فيما استقبل مضيفي 60 لاجئا من شمال قطاع غزة الذي دمر بالكامل و سوي بسبب القصف بالأرض . الرجال ينامون في مدخل الدار والممرات، فيما تتخذ النساء والأطفال الغرف ملاذا. على هذه المساحة الصغيرة مع غرباء يعيشون معا وجنبا إلى جنب ينامون، ليست سهلة للجميع وليس هناك أية خصوصية. ثلاثة أسابيع ونصف من القصف المتواصل في مثل هكذا وضع، جعلت الأعصاب على حافة الهاوية، لم انضم انا اليهم الا قبل اسبوع ونصف استطعت خلالها أن اقف على مشاهد دراماتيكية للغاية. ومع هذا كل السكان يتصرفون بهدوء وترو، يتقاسمون ما لديهم وهو قليل. خبز وطعام وسجائر وصابون حتى بطارية الهاتف الخلوي . بالأمس كنت في روضة أطفال في منطقتنا، في الليل كان 80 شخصا ينامون كمجموعة في غرفة واحدة.
الفلسطينيون متنورون كاللبنانيين وأذكياء مثل العراقيين ومقاتلين أقوياء كالجزائريين ومضيافين كما السوريين. ربما هذا هو التنوع في خصائصهم الجيدة التي تسمح لشعب غزة، التعامل مع هذا الوضع الصعب دون النفور والخوف. على الرغم من الحصار والقصف المتواصل من الجو و البحر ومن على الأرض، فالأطفال لا زالوا يلعبون أثناء النهار في الطريق، والنساء لا يتوقفن عن الغناء اثناء خبز الخبز، والرجال لا زالوا يدعمون المقاومة. ماهر، مضيفي، وضح لي: " لدينا الإرادة للعيش والقتال ، لا الصواريخ ولا قذائف الهاون يمكن أن تكسر صمودنا ".
خاتمة: لا نستطيع أن نحصي عدد المتضامنين مع غزة والشعب الفلسطيني في العالم، مواطنون، صحفيون، مثقفون، مفكرون وسياسيون. لكننا نستطيع أن نحصي عدد الحكام العرب الذين خذلوا شعوبهم وتنكروا لاوطانهم و فرطوا بقضية فلسطين : قضية الامة كلها!