المنبرالحر

ماذا لو لم يرحل اندروبوف قبل استكمال برنامجه الإصلاحي ؟ / رضي السمّاك

ثلاثة من قادة الاتحاد السوڤييتي رحلوا في أقل من عامين ونصف العام خلال الفترة الممتدة من تشرين الثاني 1982 إلى آذار 1985 ، الأول ليونيد بريجنيف الذي تولى قيادة الدولة والحزب الشيوعي الحاكم طوال 18 عاماً ، وظل يعاني من أمراض الشيخوخة المبكرة في السنوات السبع الأخيرة من حكمه ، والثاني يوري اندرويوف الذي خلفه في استلام القيادة ولم يحكم سوى 13شهراً تقريباً ( نوفمبر / تشرين الثاني 1982 - فبراير / شباط 1983 ) ، والثالث العجوز قسطنطين تشيرنينكو الذي استمر في الحكم نحو سنتين ( فبراير/ شباط 1983- مارس / آذار 1985). ثم جاء أخيراً " الإصلاحي " ميخائيل جورباتشوف الذي استمر حكمه ست سنوات فقط ( 1985- 1991 ) وكان آخر زعيم لهذه الدولة الإشتراكية العظمى التي انهارت على يده بعدأن انهكتها جرعات علاجه الإصلاحية الزائدة المتسرعة بوصفات رأسمالية صرفة ناهيك عن ضعف شخصيته القيادية وانفتاحه المفرط غير الندي على الغرب وبخاصة أمريكا ، ليسدل الستار بذلك على إثنين من أهم أحداث القرن العشرين الكبرى يختصان بقيام وانهيار دولة عظمى عاشت طوال ثلاثة ارباع القرن تقريباً ( 1917- 1991 ) . وحينما يتوفى ثلاثة قادة لثاني دولة عظمى في العالم خلال عصر الحرب الباردة في مدة وجيزة تقل عن العامين والنصف فهذا مؤشر قوي خطير لم تلتفت إلى مغزاه قوى اليسار العالمي الحليفة للإتحاد السوفييتي باعتباره يؤ شر بوجود ثغرات في منتهى الخطورة في الحزب والدولة قد تفضي بانهيارها السريع مالم يُتدارك الأمر لمعالجة أوجه الخلل بالسرعة المناسبة غير المتهورة وغير البطيئة في ذات الوقت .
أما الذي جاء إلى رئاسة روسيا الاتحادية، كبرى وأقوى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ، ألا هو بوريس يلتسين أحد الأعضاء القياديين في الحزب الشيوعي السوفييتي السابق والذي لا يمت بمبادئه بصلة ، ولعب دوراً محورياً خيانياً في التعجيل بتقويضه وتفكيكه ، ومع ذلك فقد حوّل روسيا إلى دولة قزمة ذليلة أمام الغرب وعلى الساحة الدولية ، وقد كان أسوأ قائد عرفته روسيا في تاريخها منذ العصر القيصري ، فبالرغم من تسويق أميركا والغرب له كوجه "إصلاحي ليبرالي" فقد عُرف عنه ليس استبداديته وتفرده في اتخاذ القرارات الهامة فحسب ، بل وبنزواته غريبة الأطوار غيرالمتزنة والبعيدة كل البُعد عن أدنى متطلبات الوقار والهيبة المفترضين في أي قائد دولة في العالم ، ولعل أسوأها ادمانه المفرط على الكحول وظهوره ثملاً أو مهرجاً خارجاً عن اتزانه في كثير من المواقف الرسمية والاجراءات البروتوكولية أمام الضيوف في الداخل أو أثناء زيارته دول في العالم ، حتى ان نائبه الكسندر روتسكوي لخّص ببساطة مهزلة اتفافية تفكيك الدولة السوفييتية التي جرت على عجل فيما بين رؤساء الجمهوريات السوفييتية بحضور يلتسين وتواطؤه ودون الرجوع لقواعد أحزابهم الحاكمة ولا لبرلماناتها ( مجالس سوفييت الجمهوريات ) وخرقاً لنتيجة الاستفتاء الشعبي السابق ببقاء الجمهوريات ضمن الدولة السوفييتية كالتالي : " اجتمع رؤساء الجمهوريات السوفييتية ومعهم يلتسين وقرروا تفكيك الاتحاد السوفييتي في جلسة شراب في غابة بيلوفسكايا في ديسمبر 1991 بجمهورية بيلوروسيا السوفييتية " . وروتسكوي هو نفسه الذي أتهم مساعد يلتسين الشخصي كاراجكوف بدأبه على جر يلتسين إلى الإدمان والإفراط في الخمور بغية تمرير الكثير من الاوراق والمستندات المالية والاقتصادية المهمة لصالحه وزمرته في جهاز الدولة لوضع توقيعه عليها وهو تحت تأثيرالسكر . وهكذا بدا لم يقل من عثرة هذا البلد الكبير العريق في حضارته وتاريخه السياسي والعسكري والثقافي إلا فلاديمير بوتين والذي كان من قيادات الصف الثاني للحزب الشيوعي السوفييتي قبل تفكك الاتحاد السوفييتي ، وقد عمل في فرع الكي جي بي بالمانيا الشرقية حليفة بلاده قبل سقوط نظامها الشيوعي ، فخلال سنوات قليلة تمكن بوتين من إعادة بناء الدولة الروسية وجيشها في ظل نظامها الرأسمالي الجديد ، بما في ذلك تمكينها بقدر معقول من التعافي اقتصادياً واستعادة هيبتها على الساحة الدولية بما أخذت تلعبه تدريجياً منذ اوائل العقد الماضي من دور مؤثّر في القضايا الدولية المعاصرة وهو الدور الذي بلغ ذروته في وقتنا الحاضر، وتمكنت روسيا أيضاً من إبراز نديتها لخصمها القديم الجديد الولايات المتحدة والغرب عامةً . كما قام بوتين إعلامياً بتوظيف تراث أمجاد الحقبتين القيصرية والسوفييتية لإبراز عظمة روسيا الجديدة وإظهارعراقة هذه العظمة تاريخياً .
على ان اللافت بل من المفارقات التاريخية السياسية اللافتة انه كما قُيّض لروسيا الاتحادية ، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي ، ان ينقذها من الانهيار بعد سنوات قليلة من حكم المهرج المخمور يلتسين رجل فدِم من جهاز لجنة أمن الدولة الكي جي بي فإن الرجل الذي كان مُؤهلاً لإنقاذ الاتحاد السوقييتي من الانهيار قدِم أيضاً من الكي جي بي ، بل كان على رأس جهازه ألا هو اندروبوف في عهد بريجنيف . فقد شن حرباً لا هوادة فيها على الفساد والمفسدين والتي كان أول ضحاياها وزير الداخلية في عهد بريجنيف الذي انتحر حينما تقرر تقديمه للمحاكمة ، وكان اندربوف يحمل في جعبته حزمة كبيرة من الاصلاحات لإنقاذ الاتحاد السوفييتي من الانهيار ، بل قيل بأنه هو من أهّل جورباتشوف لتولي أحد المناصب المتقدمة ، وأعد أيضاً مرشحين من الشباب ،كان من بينهم غايدار وتشوبايس ، وأرسلهم في سرية تامة ، دون دراية حتى أغلب القيادات العليا في الحزب الحاكم ، للدراسة في المعهد الدولي للتحليل التطبيقي في النمسا للتعرف على إصلاحات السوق للاستفادة من خبراتهم في برنامجه الإصلاحي ووُضعوا تحت الرقابة المشددة من قِبل عناصر "الكي جي بي " في النمسا لكن المخابرات الغربية تمكنت من غسل أدمغتهم وشكلوا مع يلتسين بعدئذ رأس الحربة لتخريب الاقتصاد الاشتراكي وبيع القطاع العام وأملاك الدولة بالجملة و بأبخس الأسعار إلى رموز الطبقة الطفيلية الوليدة بإسم اقتصاد السوق والااصلاح .
لكن يظل السؤال : ما هي حدود الإصلاحات التي كان ينوي القيام بها اندروبةف ؟ و هل حتى لو قُيض له أن يعمّر في الحكم والسن عشر سنوات فقط افتراضاً لينفذ إصلاحاته ستدرك الدولة السوفييتية الالفية الثالتة ؟ وهل ستتفادي مخاطر السقوط في ظل نظام سياسي قائم على مبدأ احتكار الحزب الواحد للسلطة وعدم الفصل بين السلطات ؟
من المشكوك فيه أن يتم ذلك دون برنامج مرحلي واضح المعالم لإحداث تحولات إصلاحية ديمقراطية في حياة الحزب والدولة توطئةً لإقامة حياة سياسية ديمفراطية حقيقية تأخذ بمبدأ التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة ، وكذلك بالفصل الحقيقي بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية ، ناهيك عن ضمان استقلالية النقابات في دولة اشتراكية لطالما هيمن الحزب الحاكم عليها ونقل اليها أمراضه التي فتكت به والدولة ، ناهيك عن مؤ سسات المجتمع المدني الخاضعة لهيمنته ، وصولاً إلى إطلاق مجمل الحريات العامة ، بما فيها حرية الصحافة وحق التظاهر . ولاسبيل ولا حُلم لأي حكم اشتراكي في عصرنا بعيداً عن هذه المكتسبات السياسية التي وصلت إليها الراسمالية ، ولا مستقبل للقضاء على توحشها الامبريالي في عصرنا وصولاً الى انحسارها الايديولوجي وإيمان شعوب العالم وقواها السياسية الديمقراطية الانسانية الشريفة بمزايا الاشتراكية إلا بنفس تلك المكتسبات الديمقراطية ، وهي وحدها التي تصون المكتسبات الاشتراكية وتصحح أخطائها وفي ظلها يتطور الفكر الاشتراكي في النظرية والتطبيق .