محمود البريكان.. ناسك الشعر الخالد
بين شباط ونيسان رابطة دم في الذاكرة العراقية ، فأن كان شباط توارى من تقويم هذا العام ، وهلّ علينا نيسان . فلابد أن نتذكّر قربان العراق الشاعر الكبير محمود البريكان ..
في عام الفيل ، كان للشعراء معلقاتٌ مقدسة ، وفي عام الخوف قـُتل الشاعر محمود البريكان
كان الشاعر " اليوت " يشمّ رائحة الموت في نيسان ..
وكان السياب يشمّ الموت كلّ يوم
ولكن البريكان إختار موته في شباط
وكانت أشرّ ميته لشاعر ...
............................
في زمن الظلام والفجيعة تٌقترف الجرائم بخفة ووقاحة عاليتين
في زمن الدكتاتوريات الأسود يصبح الموت بضاعة اليوم وخاتمة الحياة الأكيدة
في ختام شباط " شهر الدم العراقي"
من عام 2002
حطت وطاويط الكوارث وغربان الشؤم ومديات القتلة على جسد شاعر عراقي كبير وهو الراحل محمود البريكان / الذي كان قامة شامخة في سماء الابداع والجمال والانسانية معا
عاصر الشعراء الرواد وكان منهم ولكنه إختار الصمت الجليل ، وقال عنه السياب " البريكان شاعر عظيم سوف أحاول جاهدا إخراجه عن صمته "
إذ كان للراحل سره الشعري العميق وأسئلته الوجودية الغائرة في فضاء الكون والانسان ..
قتل البريكان بدم بارد ، وراح لموته وهو يتنبأ بهذا الزائر المجهول
"
أعددتُ مائدتي وهيأتُ الكؤوس
متى يجي ء
الزائر المجهولُ ؟
أوقدتُ القناديلَ الصغار
ببقيةِ الزيت المضيءِ
فهل يطولُ الانتظار ؟
أنا في انتظار سفينة الاشباحِ تحدوها الرياحْ"
"
لقد عرفنا البريكان شاعرا فذا ومربيا فاضلا وإنسانا غاية في التواضع والنبل .. كان صمته المهيب في حضرة الدكتاتور المقبور هو عنوانه المدهش ، لقد رفض كل مغريات السلاطين .
كان البريكان يحمل قوة الحضور الشعري والغياب الشخصي معا، في زمن تناهبه وعاظ السلاطين والشعراء الأبواق .. حيث لم يكتب حرفا واحدا لصالح أعداء الحياة ، فشكل نموذجا للمثقف والمبدع والانسان الحقيقي . وكان عزاءً للباحثين عن الجمال والحرية بأسئلة وجودية كبرى .
مات البريكان مغدورا في ظل صمت مريب من قبل النظام الفاشستي السابق ، حيث لم يتم تكريمه رسميا ولم يحضر في جنازته ايّ مسؤول .. ويبدو هذا ما كان يشرف البريكان حقا ، وهو الموت وحيدا واللحاق بأساتذته وزملائه في مقبرة الحسن البصري .
وبعد سقوط الدكتاتور البدوي في العراقي ، كنّا نتمنى من الحكومات العراقية المتعاقبة ووزارات ثقافتها أن تلتفت الى البريكان الذي علمنّا دروسا في مناهضة الطغاة إبداعيا .. كنا نأمل أن يقام له نصب يليق به ، او أن يطلق أسمه على شارع مهم في البصرة او بغداد، او يقام له مشروع لطباعة كل ما نشره وما لم ينشره في كتاب جامع / لكيما يبقى خالدا في ذاكرة العراق ..
كنّا نأمل أن تشكل لجنة معنية بجمع تراث البريكان وتقديمه للأجيال الحالية لكي يكون نبراسا لهم في معنى البحث عن الحرية ومقاومة الطواغيت بالشعر والجمال والموسيقى. لكن شيئا من هذا لم يحصل . يا للعار حقا .. ساسة العراق يحرقون رموزنا بدم بارد أيضا .
عندما جاء الشاعر رسول حمزاتوف للسكن في موسكو، رفض أن يسكن في المنزل الذي أعطته أياه بلدية موسكو في شارع " غوركي" وقال لهم :
حينما أموت . سوف لم يكن هذا الشارع بأسمي ..
ولكن ساسة اليوم مشغولون بحمل ما خف وزنه وثقل ميزانi في سوق صرف العملات ..
نحن في " الصالون الثقافي " سنشير بسبابة صائتة لمواطن الخراب في عراقنا الجديد ..لأنه عراقنا ، حتى ونحن في أصقاع الأرض النائية .
وأقسى الخراب أن يكون في ظلم قامات إبداعية يفتخر العالم من حولنا بها .