- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الأحد, 11 كانون2/يناير 2015 18:53

لا ادعي انني كنت على صلة و ثيقة بالرفيق فتاح . لكن المناسبات القليلة لتي اتيح لنا فيها ان
نلتقي , كانت كافية أن تفصح عن اي معدن نادر من الرجال هو , و اي قدر من الصلابة يختفي وراء تلك الابتسامة الرضّية التي كا ن يشفعها بضحكة جذلة, كنا نفر من اصدقائه , نعجب من قدرته على اطلاقها , رغم كل شئ .
ولعلي كنت من بين من يتساءلون , من اي منبع يستقي فتاح هذا الرضى , هذا الانسجام مع النفس , هذا الذي استعصى على بعضنا , و انا من بينهم ,اجل من اين ؟
يبدو لي انه كان يستقيه من اغوار نفسه الرضية , المنسجمة , المتوحدة بلا حدود مع القضية التي آمن بها , و كرس لها كل حياته , كل نشاطه , قضية العمل من اجل سعادة الناس , حتى النفس الأخير
***
الزيارات العديدة التي كان يقوم بها الى محل صهري و ابن عمتي الراحل شاكر الحريري في خان الحريري , كنت اعمل "صبيا ".- صانعا - فيه اتاح لي ان اخمن انه على صلة بالنشاط التقدمي في سوق الاقمشة . لكن اطلاق ثورة تموز , اتاحت للرفيق فتاح و نفر من اصدقائه و رفاقه , العمل بنشاط من اجل بناء منظمة البنوك و الاسواق التجارية , فيما كنت اغادر محل نسيبي الى مجالات اخرى من النشاط الحزبي , بينها الانتقال للعمل في صحيفة الحزب المركزية "اتحاد الشعب ".
و برغم ابتعاد مجالي نشاطنا الا ان ذلك كان يساعد على لقاءات صدفة عندما كان فتاح يحضر بعض اجتماعات هيئة الاسواق التي كانت تعقد في دارة صهري شاكر .
و دارت الايام ... حتى التقينا في "عكَد الكرد"صبيحة انقلاب 8 شباط الدموي , نشترك في مقاومة الانقلاب .
علمت فيما بعد ان السلاح القليل , بندقية او اثنتين و بضع مسدسات , انما كان من "الترسانة " المطمورة في حديقة بيت فتاح و انه نقلها الى العكَد لتساهم في المقاومة .
في اليوم الثاني من المقاومة -اي الاحد 9 شباط - وجدت فتاح الى جانبي خلف سور سطح منخفض مطل على شارع العكَد الرئيسي نرمي الدبابا ت الرائحة الغادية بما يشبه قنابل -قناني -المولوتوف التي كان فتاح يعبئها بهمّة و نشاط , لا تفارقه ابتسامته الخالدة .
مرت قذيفة مدفع فوق راسينا لتحدث فجوة في سور بناية مطلة على سطيحتنا . اشار فتاح الى الفجوة ضاحكا : كنت هناك ! و استأنف تعبئة القناني - القنابل ***
قضينا ليلة اخرى خلف السورظهيرة اليوم التالي حتى جرى استدعاؤنا . كان علينا ان نعبر الى الجهة الأخرى من الشارع الذي كانت تسد ناصيتيه من جهة ساحة النهضة و من جهة الكيلاني رشاشتا فيكرز للانقلابيين .
كان العبور مثل لعبة الروليت الروسية . عبر فتاح باسرع من الطلقة التي انطلقت من فيكرز الكيلاني. فيما تلبثتُ خلف احد الاعمدة احاول ان اجد فرصة اقل خطرا , سنحت بعبور امرأة وطفلها من امام فيكرز الكيلاني فطفرت الى الضفة الاخرى , حيث جرى اقتيادنا الى زقاق جانبي فالى دار كان ينتظرنا فيها الشهيد البطل محمد صالح العبلي قائد المقاومة في عكَد الكرد و بضعة عشر رفيقا آخر لحسم مصير المقاومة في العكَد .
كان من رأيي انهاء المقاومة بعد ان جرى استطلاع جيوبها في بغداد بما فيها الدفاع و الكاظمية و انحاء مختلفة من العراق, فالمهمة الملحة ألآن , رأيت, هي الحفاظ على الحزب بأقل الخسائر و لا تصح المغامرة ببضعة عشر كادراً متقدماً فالمقاومة في العكَد لن تقرر مصير العراق ,و هو ما استقر عليه الرأي .
التقينا بعد بضعة ايام في دار حزبي للرفيق حنا ميخائيل و معنا الرفيق الراحل ابو عطا ( محي خضير ) و من هناك تفرقنا كل الى قدره و قد تشتت بنا الأقدار كل في اتجاه و في مصير .
***
ان اروع و انبل مأثرة للرفيق فتاح ,انه على تعدد مآثره البطولية لم يكن يباهي , كما يفعل بعضنا , على كثرتها, او ينتحلها او يزورها كما يفعل البعض .
كانت البطولة بالنسبة له فعل مقاومة وعطاء يومياً حتى ليكاد يجسّد بِمِثاله و حياته نموذج البطل الصامت النادر .
***
الآن وانا اغادر هذه السطور تنتشر على صفحة الشاشة ابتسامته الرضية يشفعها بضحكته .
اكاد اراه يلوّح كأنه يقول : سأظل معكم و بين الناس، فالوّح له مودعا :
اكيد ... اكيد ! لا شك في ذلك .