فضاءات

وداعا أبا زينب.. النصير رحمة احمد كاظم / عمار علي

أظنه أرعن ،نعم أرعن. هذا السفر الازلي نحو العدم.
لماذا لم تدع باب غرفتك مواربا؟
أعرف أنك تعشق الفضاءات المفتوحة.
ابو زنوبة اشبيك ليش مستعجل شعدك اهناك..
قابل رايح للبصرة ؟.
هل لك موعد هناك؟
هل تنتظرك امك على ابواب العشار او على ضفة النهر أو أمام منزلك في أحياء فقراء البصرة ؟
ربما سيأتي معها تومان وحملة الرايات الزنجية.ستخرج المختارة كلها لك.
أو ربما خشابة الزبير، وعمال المسطر واحفاد هندال ، حمالو الميناء.
سيجتمعون في ام البروم بلا شك؟
من الذي اغواك بالذهاب الى التراب ؟
ومن ذا الذي أغواك بالرحيل الى تلك الاصقاع التي لاعودة منها؟
هل سمعت نداء ديموزي، في العالم السلفي ؟ هل أغواك هذا النداء؟
الم يرتل عليك أحد عذاباته؟
ديموزي هذا ، ألا يدرك انك لا تحب تلك العوالم الباردة وأنت ابن الشمس ..انت المحارب المغوار ، لذا اصطفاك كلكامش ،في مساء صيفي مقمر ، كنديم له في الحانة السومرية. تعال يا صديقي، ويا رفيق الثلج والبارود. رفيق الليالي العاصفة في "نوزنك" وفي "قنديل" القتيل.
رب الحلو ،تعال ننتشي سوى هنا في بيتي الذي يطل على النهر وزرقة البحيرات. اشتريت بطلين تركي مثلما طلبت.
لقد حكيت لزوجتي ولهبة وسلام عنك. ينتظرون مجيئك بنشوة الاطفال ،شيء يشبه المستحيل أنت . لقد قصصت عليهم حكاياتنا في الجبل وفي المنفى،،يعرفون انك نادر في النقاء والشهامة.
تعال نغني احيا واموت على البصرة. وتحدثني عن هندال وعن رفاق البصرة في عتمة الزنزانات.
هل تتذكر عرس (ابو سيف) وهدى؟
هل تتذكر سطح فصيل الرفيقات في ذلك المساء الصيفي المدهش؟
انجخ ابو اسعود انجخ ،اكيد لا تنسى .
جاني جيت الحية ..
تأتي اليك البصرة، حاملة النخيل والافياء والاشرعة وحزن الامهات والمدن.
تصعد الايقاعات الى السماء. اصابعك تبتكر الاصوات ،تغمض عينك وينضح منك العرق ،انك في حالة وجد.. احيا واموت على البصرة..كأنك تعيش في رحاب الازقة و تعاند امواج النهر وتقطف اعذاق التمر. تتوقف وتشعل سيجارة وعلى سيمائك فرح الاطفال.براءة وسطوع ورغبة بالعودة الى مسالك الجنوب المحتدم بالشمس والحروب.
هل تتذكر لينا وسوزان وجيان وام علي وفيان وام رزكار؟ وايزو الطفل الذي خذلته الحياة؟
هل تتذكر حين كنت تضرب على الخشبة وابو احلام وانا نرقص بفرح طفولي؟ كنا انقياء يا رحمة؟
هل تتذكر عدوخ وابو الصوف وحنتاو بآلاتهم الغربية؟
كنا نشعل فضاء العرس بالضجيج وبالحنين.
هل تتذكر سعيد مفاصل وابو غبشة ؟ اعلوم سعيد مفاصل الاكيدة والمسربة له ، وبزخ ابو غبشة الذي يشبه الجنون؟ وانت تقود الفرح مثل راعي الريح والغيوم..
هل تتذكر تعليقات سلام وابو تغريد الاشقاء اللذان يمنحان الغروب نشوة ،كانا يطردان وحشة الجبل، كانا يبتكران الفرح ،وثالثهم عبوسي ، لا اعرف من اين يغترفون كل تلك الحكايات الساخرة العميقة؟ كنت تضحك من القلب.وانت تلف سيكارتك من كيس التبغ.
هل تتذكر حين رقص عطوان؟ جانت روحه تفرفح ممتزجة بالفرح واحزانه الداخلية تلك التي المت به ازاء وشاية خائبة؟ لقد صرت له اماً وصديقاً تعتني بروحه المعذبة. تلملم اشلاءها وترمم روحه بحكمتك .حكمة الفقراء وخبراتهم وتواطئهم السري مع الالم والخيبات.
لماذا اخلفت وعدك لي؟ قلت سآتي اول الصيف.
انتظرني حتى أول الصيف ملثما، اتفقنا؟ هل تتذكر حين ارسلت لي صورتك مع نسرين أبنتك الطالبة الجامعية؟ ، تتحدث عنها بفرح غامر؟
- لديها رغبة بزيارة البصرة .
- خذها الى النهر والنخل والازقة ووهج شمس الجنوب.. ينابيعها الاولى.
- اخاف عليها.. هكذا قلت لي.
حين وصلتُ الى "نوزنك" ، لم تكن موجوداً، بل كنت حاضراً بقوة في المقرات،كان اسمك يتردد في الاحاديث اليومية. لم تكن متملقاً او متحذلقاً.
عرفت انك كنت غاضباً على الحزب ،فخرجت الى ايران، لكنك لم تستطع الفراق، فعدت قويا وصلبا ونقياً.. منذ اول مرة رأيتك فيها. توطدت علاقتنا ،ربما لاننا فقراء ولا نحمل شهادات ولا حتى نجيد فلسفة الحذلقة التي كانت سائدة آنذاك.
خلف "قنديل" وفي (كويلا) ذلك الكمين الغادر، كنت تصرخ: قاتلوا ايها الرفاق. كنت تسد طريق الانسحاب وتصوب بالبرنو رصاصات في العتمة نحو الاصوات القادمة منها.لقد نسيت اوجاع لثتك الملتهبة ،كنت تسأل بالاسماء عن الرفاق.
صرختك في الوادي عالقة في ذهني: قاتلوا بشجاعة، اصمدوا..
في قمة "قنديل" الجليدية ..
هل تتذكر حين مررنا بقمة الجليد تلك؟
لقد شاهدت جثة مسجاة فوق كفن رمادي ..قلبتها فوجدتها تتنفس. كانت جثة بولا، كان في برزخ الموت والحياة،وحيدا ملقى على قارعة الثلج ، البرد مخلب الموت المرعب في تلك العزلة المروعة. ناديت على الرفاق، وأعدت الحياة اليها. كما سمعت صوت عشتار تئن من البرد، شبه متجمدة، كنت حائرا وحزيناً.
كنت شجاعاً ومتفرداً بالنقاء والطيبة.
أظنه أرعن .
نعم أرعن.
هذا الشبح الذي اسمه الموت.