ادب وفن

فيوليت أبو جلد.. مدائح النص ومدائح الجسد / علي حسن الفواز

قد تكون الرغبة في تأنيث اللغة مشروعة لتعديل زاوية النظر، وللمجاهرة الحميمة بتفكيك ذاكرة الفحولة التي أوهمتنا دائما بالسلطة والمجاز والإمتلاك، وحين تصطنع القصيدة -بوصفها لعبة المجاز الأكثر خطورة- شروطا أخرى للعبة المضادة، فإنها تتحول إلى مواجهة من نوع آخر، إذ تكون القصيدة بديلا شعريا عن الوجود، وبلاغتها بديلا عن الإعتراف، وحميميتها بديلا عن السرير.
هذه الإستعادة الظاهراتية تتشيء عبر نصوص الشاعرة فوليت أبو جلد، إذ تكتب نصها في مدائح الجسد، مثلما تكتب بخصوصية شديدة عن وعي النص، وعبر ما يمكن أن تدركه من حمولات الوعي والوجود، وعبر ما تصطنعه من شغف يساكن التحول والتجاوز والمفارقة، وفي الإنكشاف على كل ما هو مضمر وخبيء في الجسد والنص وفي التفاصيل و"المقموع والمسكوت عنه"..
الكتابة هي عتبة إشهارها الأكثر إثارة لفك الإشتباك مع هذا المسكوت، والإنغمار الحاد في لعبة المواجهة وفي إستدعاء المريد والمعشوق، إذ تكون هذه الكتابة هي الباعث على التدفق، وعلى الإغواء في المراودة، وفي نزع قميص المثيولوجيا، وإفتضاح الكثير من الأقنعة التي يتلبسها الواقع، والإستعانة باللغة بوصفها بيت الأخيلة والشفرات، والداعية لتسكين العالم في إستعاراتها وعلى سرير بوحها، أو في إنتظار ما يأتي.
تضعنا الشاعرة فوليت أبو جلد أمام شهوة الغاوية لهذه العتبة، وأمام فضاءات نصها الباذخ بالإشهار، حيث الشِعر المندسّ في التفاصيل، وحيث روح الأنثى الواهبة، والمغامرة والباهية، والشغوفة بإستعادة المفارقة، والتماهي مع حدسها وهي ترصد ما يتساقط من سرائر وعيها القلق للوجود، تلك الغامرة في ممارسة الكشف الفادح عن ثنائية الغياب والحضور، المغادرة والبقاء، والفراغ والإمتلاء، وحيث هواجسها وأسئلتها المستفَزة، إذ تكون القصيدة منظارها ومجسّها وتعزيمها، أو زاوية نظرها، أو حتى لحظتها الشبقة التي تستغرق الجسد واللغة والهوية.
قصيدة فوليت بسيطة لكنها مشحونة بشغف الحياة، ودافقة بحميمية التفاصيل، تجرّ اللغة/ البوح إلى فضاءات اللغة/ الرؤية، وهذا ما يسبغ على لعبة الكتابة الشعرية توهجات تساكنها الشاعرة بوصفها تأملا، أو وعدا قائما على إستدعاء نص الفرجة/ المتعة، ونص الحبيب/ الرجل، أو بوصفها إيغالا في لعبة المفارقة، تلك المحشوة بالكثير من التضاد والتمرد والإحتجاج والرفض لذاكرة المعطوب والمهمل، والمنسي والشائخ في الظل أو النسيان..
في الزاوية أجلس،
أستمتع برؤية النساء اللواتي خرجن مني إلى نزواتهن،
إلى حفلاتهن،
إلى الخيّاطة ككذبة مثيرة في فيلم مصري قديم.
في الزاوية،
بعطر بريّ، بأفكار خرافية،
بإيمان مطلق بالأشباح تلهو في الدار المسكونة فوق غرفتي،
بكحل كثيف أسود فوق العين وفي القلب،
بشَعر أحمر وسحنة شاحبة،
أستمتع برؤية الرجال الذين خرجوا مني،
إلى نزواتهم، إلى حفلاتهم ،
إلى أمهاتهم ككذبة عتيقة في فيلم مصري قديم.
تكتب فوليت الجملة الشعرية بوصفها تصويرا، أو بوصفها كلاما في لحظة إنتشاء أو خوف، إذ تتكشف هذه الجملة عن مبنى شعري يزاوج مابين اللساني والدلالي، في سياقه التعبيري النحوي والبنائي، وفي تمثله لروح الأنثى وهي تتلمس مايوحي بالمعنى الظاهر والخبيء عبر اللغة، أو ما تهجس به عبر فينومنولوجيا وعيها المستعاد، والذي تتمثله اللغة عبر شفراتها وعبر مرسلتها التوصيلية والتفاعلية، إذ يتبدى هذا الوعي في صور شعرية دافقة تقابل ما تتيحه الرؤيا من تخيلات، ولما يمكن أن يفضحه فعل الكشف عن هواجس ذاتها المتعالية، فهي تقترح وجودها عبر ?للغة/ الفضح، وعبر ما تحققه رؤيتها وتلصصلها من إيهام بعلاقات داخلية تتدفق منها أحاسيس غامرة، ومن علاقات وجودية تتمثلها لحظات إنشدادها الواقعي ليومياتها المشغولة بالتفاصيل ومراقبة الأخطاء والأوهام الصغيرة والرجال العابرين إلى الحرب أو خارج الجسد، وهذا ما يُنعش قصيدتها بالتخيّل، وبشغف حسي يفضح جوانيات الشاعرة الضاجة بحكايات ومرائر وفقدانات، لكنه أيضا الشغف الذي يدفعها لإستيهام الحضور بوصفه فكرة للإشباع، أو التعويض التي يتكىء على شراهة ما تقترحه من إستعارة ذاتية تخصها، وتخص قاموسها الشعري أيضا..
"كيف تحوَل سريري أمس إلى غيمة؟
وما الذي جعل غرفتي جنة؟
من ألبسني هذا الحرير؟
ومن عطر جسدي بالياسمين؟
ومن كحلني هكذا منذ الصباح؟
من أين كل هذا الورد على شفتي؟
ما كل هذا الرقص بي؟ من أين تأتي هذه الموسيقى/ كيف"؟
في مجموعتها الشعرية "أوان النص.. أوان الجسد" تنفتح هذه اللعبة على مجاورات شعرية تلامس اليومي والحسي والإيروسي في الجسد، مثلما تتسع فيها البنية التصويرية في اللغة/ النص بوصفها طاقة تعبيرية، أو بوصفها مغامرة في سردنة اللحظة الشعرية، إذ تتمثل قصيدتها النثرية لبعض وصايا سوزان برنارد في الكثافة، لكنها تتجاوزها، عبر تجاوز المجانية، فاللغة الشعرية تشحن حسيتها بدفق إستعاري كلي، يستفزّ المخيلة بطاقة توليدية، ويهبّ المفردة الشعرية إيقاعا يتصاعد داخل الجملة، وبما يجعل حسية البوح أكثر تناغما، وأكثر إتساعا للتعبير عن ا?حمولة الحسية/ الأيروسية لـ "فتشية" التفاصيل- الملابس، الأصوات، الحركات- عبر ما تكتسبه من شحنات شعرية غامرة بالوهج التعبيري، وعبر تدفق صورها، وكأن نص الشهوة/ الجسد هو ذاته النص المتعالي الفونولوجي، الحسي المساكن اللغة ونشيدها غير الحيادي…
"للحب ملابس وخلاخيل،
له رنين الخطى وفواتح الشهوة،
له ضحكة تنشقّ عن فم لتنضمّ إلى آخر،
له صراخ لا يعكس النوايا،/ هتاف وتهليل …
وإني أحبكَ حتى الرقص، حتى يُبعث من جسدي آخر المواويل"..
حرص الشاعرة على فاعلية الطاقة التصويرية للجملة الشعرية ينعكس أيضا على تركيب هذه الجملة، وعلى تشكيل صيغتها النحوية، فنثريتها تركز على فعل السرد/ التصوير، مقابل تقويض فعل الترسيم النمطي للجملة- الفعل، الفاعل، المفعول به أو الصفة، أو صيغتي المتعدي واللازم وهذا التقويض يبيح للشاعرة أن تكون أكثر تدفقا في توتير جملتها/ صورتها، وأكثر تعبيرا عن شغف ذاتها بشعرنة اليومي والحسي والعابر دونما تردد.. فهي تشكّل تلك الجملة تماهيا مع ما تحسّ به، ومع ما يقابله من هاجس تصويري، هو هاجسها الشخصي غير المُقيد بسياق نحوي أو بلاغ?، فإذ تبدأ بحرف الجر، تسحب معها أيهام الذات، وما تحسه من خلالها، وما تفقده فيها، وما تحضّره خلالها من "فتشيات" لها علاقة بتفاصيل المكان والزمن، لكنها مفتوحة على إيهام إستعاري دافق، حدّ أن حرف الجر "الباء" يتحول من تشكيل نحوي سليط في التحوّل، وفي تفجير الشفرة الحروفية إلى طاقة متصاعدة ونامية..
بي،
بعِتابي،
بما أتوجّس منه،
بما يتسرّب من الأغنية الأخيرة الليلة،
بالأيقونة المعلقة ببراءة ،
بما اعترفتُ به على ذلك الكرسي يومها.
بما يُنسبُ اليّ من قتلى لم أقتلهُم،
من أقوال لم أحييها.
بكل ما انسلّ من قمصان النوم حين لم ننم،
بالصباح الذي انسلّ منا مسرعا.
بما أوشكتُ عليه حين هممتَ صامتا،
بما ادّخرناه حين لم…
حين لو…
حين يا ليت…
بما هجرناه طائعَين،
بما اشتدّ وثاقنا به.
بما تركتَه تحت أذني،
بالخصلة الطائشة حيث غيّرتَ مسار جبيني،
بشَعري حين دَسَستَ في لونه خمرتك.
بيأسي الآن،
بصراخ كل هؤلاء المشاة، العراة،المجانين،
في كلمة: أحبك….